0
شخصية المشروع الإسلامي

يتمردُ كثير من الناس على التصورات الإسلامية حينما يتحدثون عن الإسلام وعن المشروع الإسلامي وكأنما يتحدثون عن مشاريع بشرية، متجاهلين حقيقة أن الإسلام هو شرع الخالق المالك سبحانه الذي لا معقب لحكمه ولا لشرعه، فلا تجوز المساواة بين شرعه وشرع غيره من المخلوقات إلا في صورةٍ من أجلى صور الظلم وأعظمها، تجعل حق الخالق المالك سواء مع المخلوق المملوك، وهو الظلم الذي لا يغفره الله أبداً، ويغفر ما دونه من ظلمٍ مهما عظم.

وفي ظل ضخِّ الفكر الغربي لمفهوم المساواة اللاديني شاعت تلك الممارسة التي يمكن أن نسميها: (شخصنة المشروع الإسلامي) حيث أصبح الإسلام وشرائعه عبارة عن رؤيةِ وغايةِ ثلةٍ من الأشخاص الذين آمنوا به، وبناء على ذلك يتم تجريد هذا الإسلام وهذه الشريعة من كل ما يميزه عن غيره من الرؤى والغايات التي يتمثلها أشخاص آخرون، ولّدت عملية التجريد تلك: إنكار حاكمية الشريعة وإلزاميتها بصورة الزعم أنها محتاجة لتصويت الناس عليها حتى تكون ملزمة، وإنكار منع الآراء والمشاريع التي تخالف المشروع الإسلامي، وعدم استساغة جهاد الطلب لأنه يمثل إظهاراً لدين الله على المواضعات البشرية المهدرة، وغير ذلك من مواقف ضحايا شخصنة الإسلام.

  وهذه الشخصنة أقرب إلى التفهم حينما تجيء نتيجة تبعية لإعلان الكفر بالله وبما في الإسلام من حقائق، لكن المفارقة تكمن في صدورها ممن يعلن الإسلام ويدين به، ثم هو لا يبقي أثراً لإسلامه حينما يتمثلها، يذكرنا ذلك بصنيع المنافقين الذين أعلنوا الإسلام ظاهراً لكنهم تنصلوا من هيمنته عليهم، إما لريبهم مما أعلنوه وإما لخوفهم من حكم الله على أنفسهم وشهواتهم: [أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ] {النور:50}

وأسلوب الشخصنة أسلوب قديم، كان يستعمله المبطلون المنتسبون للإسلام، فيختزلون الإسلام والسنة في شخوص الدعاة إليها، كما في قولهم : (تيميون) نسبة لابن تيمية، و (وهابيون) نسبة لابن عبدالوهاب، وهم هنا لا يعبرون عن اجتهادات الرجلين وإنما يعبرون عن الحق الذي يكون في بعض صوره أساس الدين والأصل الذي لأجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب (توحيد الله بالعبادة).

وهكذا نجد اليوم هوساً بالتصنيف يصل لدرجة أن بعض الكتاب لا يريد أن يستوعب شريعة ولا فريضة ولا مفهوماً جاء في القرآن والسنة دون ربطه في شخص مشهور أو غير مشهور، كما يقال عن الحاكمية التي نص عليها الله في كتابه: (مودودية وقطبية) ونحو ذلك، وآخرون لا يستوعبون فضيلة ولا تديناً ولا رسالة دون ربطها بالأحزاب والحركيات الضيقة كما يقال: (سرورية وبنائية وإخوانية) ونحوها.

وبعض هذه التصنيفات قد تكون حقيقية من جهة وجودها لا مناطها، لكنها تتعرض للتوظيف في مناطها حيث يتم تجاوز الحركة أو الرؤية الاجتهادية ليكون المناط: فريضة أو شريعة أو مفهوماً إسلامياً ربما كان من أصول الإسلام ودعائمه العظام التي لا يتصور الإسلام كدين بدونها.

  استجد في العصر الحاضر داخل المنتسبين للإسلام استخدام أسلوب الشخصنة مع الإسلام برمته، فيقال: (إسلاميون) ثم يكون هذا التعبير في سياق مساواتهم بغيرهم من أصحاب الأفكار والمشاريع، بل مثلهم كمثل الليبراليين واليساريين ونحوهم من شذاذ الآفاق، يجب أن تقف الدولة ويقف المجتمع من الجميع على مسافة واحدة، وحينما نذكر أن أسلوب الشخصنة قديم في المنتسبين للإسلام فإنهم يقعون فيه وهم يجهلون حقيقة الإسلام أو ينكرونها فينسبونها إلى الأشخاص، أما اليوم فهناك من يقرّ بزعمه أنه الإسلام وأنه شريعة الله، ثم هو يتحدث عنه كمشروع أشخاص عليهم ألا يفرضوه على الناس وليس لهم أن يعتقدوا العلو به وإلزاميته وليس لهم أن يوالوا ويعادوا فيه أو أن يقدموه على مرادات البشر... إلخ .

  ومن مظاهر الشخصنة في الاستعمال المعاصر: فصل شرائع الإسلام المتصلة بالجانب السياسي ونسبتها إلى ما يسمى (حركات الإسلام السياسي) والادعاء بأنها مبدعة هذه الشرائع والمفاهيم، بينما هي في كتاب الله وسنة رسوله منذ بزوغ فجر الرسالة، وإنما الجديد أنها نُحيت من حكمها للمجتمع الإسلامي فحُرم المسلمون من دينهم، وصارت إلى جانب الجماعات والأحزاب والتكتلات المعارضة بقوة الاستعمار الغربي وامتداداته من النظم العلمانية الدموية.

وقد ترك هذا الموقف العلماني الزائف أثره في بعض التوجهات المنتسبة للإسلام، خصوصاً (غلاة الطاعة) الذين تشربوه نتيجة لصوقهم بالحكومات، وغالب هذه الحكومات صيغت مواقفها من الإسلام وأهله صياغة علمانية، صار في ظلها كل مذكرٍ بحكم إسلامي أو شريعة قرآنية أو نبوية متصلة بالسياسة (إخواني) بالضرورة، أو متأثر بجماعة الإخوان، وهكذا يزري بالإسلام من يزعم أنه يدافع عنه، وكأن الإسلام في تاريخه الحافل لم يمتلئ بالمجاهدين والمحتسبين والعلماء الصادعين وحركات الإصلاح السياسي إلا بعد أن جاء الإخوان.

  يمكننا أن نقول إن أسلوب (شخصنة الإسلام وشرائعه) يصلح معياراً لاختبار الخلفية اللادينية وتمييزها عن الخلفية الإسلامية في البحث والتفكير، فمن سمات الفكر اللاديني التحدث عن الإسلام بوصفه خيار مجموعة من الناس اسمهم (الإسلاميين أو الفلانيين) فهو حتى لا يعبر عن المسلمين، وهذا الخيار ليس ثمة ما يميزه عن غيره من الخيارات المتعددة.

  بينما الفكر الإسلامي لا يُحتمل فيه موقف يصدر عن غير: (أن الإسلام دين الله الذي ارتضاه لخلقه وحكم به في ملكه وأوجبه وأبطل ما سواه) وما ينتجه هذا التصور من مواقف نفسية وعملية مستعلية بالإسلام وحاكمة به على كل ما يعرض في هذه الدنيا.

هذا لا يعني أن حملة المشروع الإسلامي هم في كل ما يمتثلونه يعبرون عن حكم الله، ولا يعني أنه ليس لهم خصوصيات في مشاريعهم، ولكن التمييز بين المستويين هو المتعين، ولا يجوز أن يدمج بين ما يحملون من دين الله وبين ما يحملون من خصوصيات واجتهادات، سواء كانت نهاية هذا الدمج الهبوط بدين الله أو التعالي ببشريتهم لمرتبة القداسة والعصمة.

وإذا تقرر أن الإسلام حق الله على العبيد، وأن شريعته من تصرف المالك في ملكه، فإن ذلك يعني أنه قد يحتمل فرض الرؤى الخاصة لحملة المشروع الإسلامي حينما يكون ذلك ملازماً لمشروعهم، وهذه الرؤى والاجتهادات الخاصة بأصحاب المشروع الإسلامي التي يحتمل فرضها لأجل فرضه منها ما هو اجتهادي ومنها ما هو من يسير الإثم .

فالاجتهادي: لا يكاد يخلو منه تطبيق لشريعة الله، فإن من يطبقها تعرض له من الحوادث والنوازل ما يقصر علمه بالشرع عن الإحاطة به، فيضطر للاجتهاد، ثم هو قد يصيب وقد يخطئ، ومن هذا القبيل ما ورد في وصيته صلى الله عليه وسلم لأمراء سراياه وجيوشه : (وإذا حاصرت أهل حصن ، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله ، فلا تنزلهم على حكم الله . ولكن أنزلهم على حكمك . فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا) ولا ريب أن هذا الأمير ما حاصرهم إلا بحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن قد يعرض له من الحوادث ما لا يعرف فيه حكم الله فهنا يكون عليه الاجتهاد، وتكون رؤيته الاجتهادية مغمورة في بحر فضيلته ومهمته الكبرى التي هو بصددها وهي إخضاع الناس لحكم الله .

وما هو من يسير الإثم: فهذا في مثل صورة ما لو تخلى الناس عن القيام بشريعة الله إلا طائفة، وهذه الطائفة عندها من الشهوات اليسيرة في الحكم والسياسة، فحينئذ لا يمنع إثمها اليسير من خيرها العميم، وصحيح أن الواجب التحرز من الإثم، إلا أن عدم التحرز منه لا يلغي فضلية القيام بشريعة الله، وتميز هذه الطائفة عن غيرها ممن لم يقم به كلية.

ويمكن أن نلحق بهذا القبيل ما عبر عنه شيخ الإسلام في بحثه لمسألة الملك والخلافة بـ (التعسر) ومراده تعسر قيام الأمراء والولاة بشريعة الله إلا بيسير من الإثم وحظوظ النفس (إذا تعسر فعل الواجب في الإمارة إلا بنوع من الملك فهل يكون الملك مباحاً كما يباح عند التعذر؟) [ الفتاوى 30-32 / 35 ] وله في هذا الموضع وغيره كلام مفصل في الموازنة بين الحسنات والسيئات مستضيء في تقريره بنور الكتاب والسنة وما اتفق عليه الفقهاء من قواعد المصالح والمفاسد عند تعارضها وتزاحمها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
تعريب وتطوير محمد محمود
شخبطة © 2011 | عودة الى الاعلى
محمد محمود