0
يا أهل التغريب ... أدركوا اللحظة الفارقة

لست أشك أن رؤوس التغريب ستختفي هذه اللحظات التاريخية، فبعد تسديدهم الضربة الأخيرة في جامعة نورة وتهديدهم للأعراض ستعود الرؤوس إلى جحورها لجسِّ نبض المجتمع المتدين ومدى غيرته على أعراضه، ولست أشك أيضا أنه حين تكون ردة الفعل باردةً؛ فالمستقبل ينطوي على ضربات أخرى تضرب في العمق، فلن تهدأ العصابة حتى تنقلب العفيفات الطاهرات إلى فتيات متعة وتزجية الفراغ في بهو الماريوت!

حين تتحدث عن عجلة التغريب التي تدوس كل يوم صرحا من صروح الفضيلة؛ فإنك لا تتحدث عن مشاريع تدار في جنح الظلام، وخطط تبحث عن مستندات لها محسوسة، بل كل المجتمع أصبح يدرك أولئك الذين يتآمرون على شرفِ العفيفات، ومن المعلوم أن المجتمع ربما يصبر على اليد التي امتدت لأمواله، لكنه لن يصبر على امتهان فضيلة نسائه، وما أخبار الاعتصامات التي صرنا نسمع عنها بسبب الحماقة التي ارتكبها قليلو المروءة إلا لونا من ألوان نفاد الصبر!

حسنا.. لدى القارئ سؤال أشعرُ به الآن ، وهو: ما المطلوب من هذا المجتمع الذي يُستهدف في أهله وأعراضه؟!

مِنَ المطلوب على أهل الغيرة توزيع الأدوار بشكل جيد، وقيام كل مسلم على ثغر الفضيلة وهو يستشعر فيه أنه يحمي أهله وذويه!

فالحرب المنظمة على العفاف لن يغلبها إلا أفعال منظمة، ومن أكثر ما يخشى على أهل الغيرة وعموم المجتمع حين تستعرُ حرب التغريب أمران:

1-الرضوخ والاستسلام لضربات التيار التغريبي الأهوج، وذلك بإشاعة روح الانهزامية بأن المجتمع يدار بأيدي هؤلاء المتنفذين الكبار، فلا قدرة على سحب البساط من صاحب القرار، فبالتالي يظل الناس متفرجين على أعراضهم وهي تحت رحمة التغريبيين ، ويندفع آخرون حمايةً لأعراضهم بتصرفات غير محسوبة، وهذا من أخطر ما يهدد المجتمع المسلم ويحيله مواتا لا حول له ولا قوة، فمن الواجب على أهل الغيرة والدعوة وذوي العلم أن يبثوا في الناس روح العمل الإيجابي، وينتدبوهم للدفاع عن الأعراض مهما توحش التغريب، فليست الهزيمة في أن يحقق العدو أهدافه ونحن نقاوم بكل ما نستطيع من منافذ مشروعة، إنما الهزيمة أن يتحكم التغريبي في أعراض المسلمات ونحن نتفرج! والعمل الإيجابيُّ مهما كانت قوى الباطل نافذةً هو منهج قرآني صميم فـ(ما على الذين يتقون من حسابهم من شيء) ، ويبارك الله دوما في جهود العاملين، ويقر أعينهم بتحقيق آمالهم كلما امتثلوا أمره وصانوا الأعراض التي عظَّم سبحانه شأنها، وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى (وإذ قالت طائفة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم) قصةً تحكي هذا المنهج القويم ، فلما نهى الله بني إسرائيل عن الصيد يوم السبت انقلب بنو إسرائيل إلى ثلاث طوائف، العاصي، والمذعن لأمر الله، والقاعد،  فلنأخذ تلك القصة برواية أبي عبدالله القرطبي في تفسيره هذه الآية؛ قال:
(قال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق، وهو الظاهر من الضمائر في الآية، فرقة عصت وصادت، وكانوا نحوا من سبعين ألفا، وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص، وإن هذه الطائفة قالت للناهية: لم تعظون قوما-تريد العاصية- الله مهلكهم أو معذبهم على غلبة الظن، وما عهد من فعل الله تعالى حينئذ بالأمم العاصية، فقالت الناهية: موعظتنا معذرة إلى الله لعلهم يتقون).
  فانظر كيف ساق الله حجة هؤلاء الناهين على القاعدين .. هل انتهت القصة هنا؟!
كلا!
  فالمشهد لا يزال ناقصا، ويكتمل الفصل الأخير منه بهذه الآية التي من قرأها بتمعن قفز قلبه من بين الضلوع وطمع أن يكون من أولئك الناجين حين ينزل العذاب ، تأمل  قول الله بعد الآية السابقة (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذابٍ بئيس بما كانوا يفسقون) ، وهذا المعنى (نجاة المصلحين) شهيرٌ متواردٌ في كتاب الله كنحو قول الله (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) فالنجاة لا تكون بالقعود والصلاح الذاتي وإنما بالإصلاح المتعدي.

  2-الانخداع بخط الدفاع الأولي في جيش التغريب، ألا وهم ثلة من المنتسبين للشريعة ركبوا أهواءهم وغدوا مطيَّة للمتنفذ، وهذه الثلة كما قال ابن القيم عن أشباههم (ممن مُنع التوفيق وصُدَّ عن الطريق) هم في الأغلب على استعداد لشرعنة كل ما يريده الأكابر وأصحاب القرار، فهم ارتضوا لأنفسهم مكانةً تبعية حيثما اتجهت بوصلة التغريب عبر اجتزاء النصوص وبترها من سياقاتها وعدم الاعتبار بالناسخ والمنسوخ وما نزل قبل الحجاب وما نزل بعده، فكل هذه الاعتبارات ساقطة، الأهم هو تقديم السند الشرعي المطلوب لكل مرحلة، وينخرط في سلك ذلك ما يفعله بعض الناس من الخلط  في أصول الاستدلال والقفز بين المذاهب ، أو ترك المذاهب كلها والعمل بظاهر السنة ، أو ترك ذلك كله والعمل بظاهر القرآن ، فحين يريد سوق الأدلة على كشف الوجه يروي لك قول المذاهب ويفخِّم من قول الجمهور ويعظم عليك مخالفته، أما في مسألة الغناء فإنه يدع هذا كله ليحدثك عن ابن حزم ، وإذا أراد تقرير مسألة ما والمخالف فيها ابن حزم وحده ، قال : ولم يقل بهذا إلا ابن حزم! أما إذا جاء لمسألة الغناء قال: أباحه الإمام الموسوعي أبو محمد ابن حزم!
فيا لمسالك النفوس!
وما أرادوا إلا تهتيك وشائج الفضيلة ، واللحاق بأي حافلة متجهة غربا!

علينا أن نعترف بقدرة هؤلاء على التشويش وإثارة الغبار وبلبلة المفاهيم، لا سيما بين البعيدين عن التعمق الشرعي، ومن أعظم ما يفتُّ في أعضاد أولئك؛ هو نشر نصوص الفضيلة وبث وصايا القرآن المتعلقة بالعفاف في الناس، وفضح جهل هؤلاء بنصوص الوحيين القطعية، فتحريم الاختلاط الدائم ليس ابتكارا من فقهاء متزمتين، وإنما حرم بنصوص متضافرة في الشريعة ، وللفقهاء نصوص قاطعة في تحريم الاختلاط الدائم بالنساء؛ ما يفعل من يريد تحطيم الحواجز الشرعية بين الجنسين بمثل قوله تعالى (فاسألوهن من وراء حجاب)
ومثل قوله (ولاتخضعن بالقول)
ومثل قوله(ولاتبرجن تبرج الجاهلية الأولى)
ومثل قوله (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)
ومثل قوله (يدنين عليهن من جلابيبهن)
  ومثل قوله (ولا يبدين زينتهن)
  ومثل قوله (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)
ومثل قوله (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في الصحيحين : ( لايحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها)
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي موسى : (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية)
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم من حديث عقبة بن عامر في الصحيحين :(إياكم والدخول على النساء) إلخ إلخ ..

لكن أيها القارئ الغيور على محارم الله؛ أتدري ما يفعل الاختلاطيون من المنتسبين للعلم بهذه النصوص الشرعية التي تنقض أصولهم من القواعد؟!
لهم في ذلك مسلك ظريف جدا.. أتدري ما هو؟
إنهم يغفلونها تماما تماما كما لو لم تنزل!
  فهم يريدون شرعا مفصلا على قدِّ الحضارة المعاصرة، وهذه النصوص ربما تشوه جسدنا الحضاري أمام الغرب، فأفضل وسيلة هو إلغاؤها ودسها بالتراب!

أخيرا.. تأمل أخي القارئ هذه الآية التي من قرأها استغنى عن كثير من التفصيلات وتتبع النصوص وشعر ببرد اليقين ينساب بين ضلوعه ، إنها آية الأحزاب الجليلة وهي قوله تعالى (ولايضربن بأرجلهن ليعلم مايخفين من زينتهن)

قال السعدي عند تفسيره هذه الآية : [أي: لايضربن الأرض بأرجلهن، ليصوّت ماعليهن من حلي، كخلاخل وغيرها،فتعلم زينتها بسببه ، فيكون وسيلة إلى الفتنة، ويؤخذ من هذا ونحوه ، قاعدة سد الوسائل ،وأن الأمر إذا كان مباحا ، ولكنه يفضي إلى محرم ، أويخاف من وقوعه ، فإنه يمنع منه ، فالضرب بالرجل في الأرض،الأصل أنه مباح، ولكن لماكان وسيلة لعلم الزينة، منع منه]

  إذن فالشريعة تنهى المرأة عن مجرد الضرب بقدميها كي لا يسمع صوت خلخالها المستور!
  هذا الميزانُ الشرعيُّ الجلي في ستر النساء خذه بيدك واضرب به من شئت وما شئت من دعاوى فهم الشريعة!

ثمة جملة تحترق في حلقي، لكني سأقولها على مضض:
يوما ما سيُكتب على حائط التاريخ أن اليد التي لم تفتأ تنخر جدار الفضيلة صافحتها يد فقيه أغمض عينيه عن مكر الليل والنهار ، وطفق يتحدث بلغة باهتة: ليس كل الاختلاط حرام!
(من قال هذا أصلا؟!)
يقوم المنكر القطعي فينكره أهل الغيرة فيقوم هذا المتفقه ويسد سيل الإنكار بقصاصات واجتزاءات ونصوص مبتورة وفق الطلب!
يا من درستم الشريعة وقرأتم القرآن وعرفتم مقصود الشارع في عزل المرأة عن الرجل، بينوا هذا للناس ، أدركوا اللحظة الفارقة لترجحوا كفة الفضيلة في معركة فرض الاختلاط!

0
شخصية المشروع الإسلامي

يتمردُ كثير من الناس على التصورات الإسلامية حينما يتحدثون عن الإسلام وعن المشروع الإسلامي وكأنما يتحدثون عن مشاريع بشرية، متجاهلين حقيقة أن الإسلام هو شرع الخالق المالك سبحانه الذي لا معقب لحكمه ولا لشرعه، فلا تجوز المساواة بين شرعه وشرع غيره من المخلوقات إلا في صورةٍ من أجلى صور الظلم وأعظمها، تجعل حق الخالق المالك سواء مع المخلوق المملوك، وهو الظلم الذي لا يغفره الله أبداً، ويغفر ما دونه من ظلمٍ مهما عظم.

وفي ظل ضخِّ الفكر الغربي لمفهوم المساواة اللاديني شاعت تلك الممارسة التي يمكن أن نسميها: (شخصنة المشروع الإسلامي) حيث أصبح الإسلام وشرائعه عبارة عن رؤيةِ وغايةِ ثلةٍ من الأشخاص الذين آمنوا به، وبناء على ذلك يتم تجريد هذا الإسلام وهذه الشريعة من كل ما يميزه عن غيره من الرؤى والغايات التي يتمثلها أشخاص آخرون، ولّدت عملية التجريد تلك: إنكار حاكمية الشريعة وإلزاميتها بصورة الزعم أنها محتاجة لتصويت الناس عليها حتى تكون ملزمة، وإنكار منع الآراء والمشاريع التي تخالف المشروع الإسلامي، وعدم استساغة جهاد الطلب لأنه يمثل إظهاراً لدين الله على المواضعات البشرية المهدرة، وغير ذلك من مواقف ضحايا شخصنة الإسلام.

  وهذه الشخصنة أقرب إلى التفهم حينما تجيء نتيجة تبعية لإعلان الكفر بالله وبما في الإسلام من حقائق، لكن المفارقة تكمن في صدورها ممن يعلن الإسلام ويدين به، ثم هو لا يبقي أثراً لإسلامه حينما يتمثلها، يذكرنا ذلك بصنيع المنافقين الذين أعلنوا الإسلام ظاهراً لكنهم تنصلوا من هيمنته عليهم، إما لريبهم مما أعلنوه وإما لخوفهم من حكم الله على أنفسهم وشهواتهم: [أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ] {النور:50}

وأسلوب الشخصنة أسلوب قديم، كان يستعمله المبطلون المنتسبون للإسلام، فيختزلون الإسلام والسنة في شخوص الدعاة إليها، كما في قولهم : (تيميون) نسبة لابن تيمية، و (وهابيون) نسبة لابن عبدالوهاب، وهم هنا لا يعبرون عن اجتهادات الرجلين وإنما يعبرون عن الحق الذي يكون في بعض صوره أساس الدين والأصل الذي لأجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب (توحيد الله بالعبادة).

وهكذا نجد اليوم هوساً بالتصنيف يصل لدرجة أن بعض الكتاب لا يريد أن يستوعب شريعة ولا فريضة ولا مفهوماً جاء في القرآن والسنة دون ربطه في شخص مشهور أو غير مشهور، كما يقال عن الحاكمية التي نص عليها الله في كتابه: (مودودية وقطبية) ونحو ذلك، وآخرون لا يستوعبون فضيلة ولا تديناً ولا رسالة دون ربطها بالأحزاب والحركيات الضيقة كما يقال: (سرورية وبنائية وإخوانية) ونحوها.

وبعض هذه التصنيفات قد تكون حقيقية من جهة وجودها لا مناطها، لكنها تتعرض للتوظيف في مناطها حيث يتم تجاوز الحركة أو الرؤية الاجتهادية ليكون المناط: فريضة أو شريعة أو مفهوماً إسلامياً ربما كان من أصول الإسلام ودعائمه العظام التي لا يتصور الإسلام كدين بدونها.

  استجد في العصر الحاضر داخل المنتسبين للإسلام استخدام أسلوب الشخصنة مع الإسلام برمته، فيقال: (إسلاميون) ثم يكون هذا التعبير في سياق مساواتهم بغيرهم من أصحاب الأفكار والمشاريع، بل مثلهم كمثل الليبراليين واليساريين ونحوهم من شذاذ الآفاق، يجب أن تقف الدولة ويقف المجتمع من الجميع على مسافة واحدة، وحينما نذكر أن أسلوب الشخصنة قديم في المنتسبين للإسلام فإنهم يقعون فيه وهم يجهلون حقيقة الإسلام أو ينكرونها فينسبونها إلى الأشخاص، أما اليوم فهناك من يقرّ بزعمه أنه الإسلام وأنه شريعة الله، ثم هو يتحدث عنه كمشروع أشخاص عليهم ألا يفرضوه على الناس وليس لهم أن يعتقدوا العلو به وإلزاميته وليس لهم أن يوالوا ويعادوا فيه أو أن يقدموه على مرادات البشر... إلخ .

  ومن مظاهر الشخصنة في الاستعمال المعاصر: فصل شرائع الإسلام المتصلة بالجانب السياسي ونسبتها إلى ما يسمى (حركات الإسلام السياسي) والادعاء بأنها مبدعة هذه الشرائع والمفاهيم، بينما هي في كتاب الله وسنة رسوله منذ بزوغ فجر الرسالة، وإنما الجديد أنها نُحيت من حكمها للمجتمع الإسلامي فحُرم المسلمون من دينهم، وصارت إلى جانب الجماعات والأحزاب والتكتلات المعارضة بقوة الاستعمار الغربي وامتداداته من النظم العلمانية الدموية.

وقد ترك هذا الموقف العلماني الزائف أثره في بعض التوجهات المنتسبة للإسلام، خصوصاً (غلاة الطاعة) الذين تشربوه نتيجة لصوقهم بالحكومات، وغالب هذه الحكومات صيغت مواقفها من الإسلام وأهله صياغة علمانية، صار في ظلها كل مذكرٍ بحكم إسلامي أو شريعة قرآنية أو نبوية متصلة بالسياسة (إخواني) بالضرورة، أو متأثر بجماعة الإخوان، وهكذا يزري بالإسلام من يزعم أنه يدافع عنه، وكأن الإسلام في تاريخه الحافل لم يمتلئ بالمجاهدين والمحتسبين والعلماء الصادعين وحركات الإصلاح السياسي إلا بعد أن جاء الإخوان.

  يمكننا أن نقول إن أسلوب (شخصنة الإسلام وشرائعه) يصلح معياراً لاختبار الخلفية اللادينية وتمييزها عن الخلفية الإسلامية في البحث والتفكير، فمن سمات الفكر اللاديني التحدث عن الإسلام بوصفه خيار مجموعة من الناس اسمهم (الإسلاميين أو الفلانيين) فهو حتى لا يعبر عن المسلمين، وهذا الخيار ليس ثمة ما يميزه عن غيره من الخيارات المتعددة.

  بينما الفكر الإسلامي لا يُحتمل فيه موقف يصدر عن غير: (أن الإسلام دين الله الذي ارتضاه لخلقه وحكم به في ملكه وأوجبه وأبطل ما سواه) وما ينتجه هذا التصور من مواقف نفسية وعملية مستعلية بالإسلام وحاكمة به على كل ما يعرض في هذه الدنيا.

هذا لا يعني أن حملة المشروع الإسلامي هم في كل ما يمتثلونه يعبرون عن حكم الله، ولا يعني أنه ليس لهم خصوصيات في مشاريعهم، ولكن التمييز بين المستويين هو المتعين، ولا يجوز أن يدمج بين ما يحملون من دين الله وبين ما يحملون من خصوصيات واجتهادات، سواء كانت نهاية هذا الدمج الهبوط بدين الله أو التعالي ببشريتهم لمرتبة القداسة والعصمة.

وإذا تقرر أن الإسلام حق الله على العبيد، وأن شريعته من تصرف المالك في ملكه، فإن ذلك يعني أنه قد يحتمل فرض الرؤى الخاصة لحملة المشروع الإسلامي حينما يكون ذلك ملازماً لمشروعهم، وهذه الرؤى والاجتهادات الخاصة بأصحاب المشروع الإسلامي التي يحتمل فرضها لأجل فرضه منها ما هو اجتهادي ومنها ما هو من يسير الإثم .

فالاجتهادي: لا يكاد يخلو منه تطبيق لشريعة الله، فإن من يطبقها تعرض له من الحوادث والنوازل ما يقصر علمه بالشرع عن الإحاطة به، فيضطر للاجتهاد، ثم هو قد يصيب وقد يخطئ، ومن هذا القبيل ما ورد في وصيته صلى الله عليه وسلم لأمراء سراياه وجيوشه : (وإذا حاصرت أهل حصن ، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله ، فلا تنزلهم على حكم الله . ولكن أنزلهم على حكمك . فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا) ولا ريب أن هذا الأمير ما حاصرهم إلا بحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن قد يعرض له من الحوادث ما لا يعرف فيه حكم الله فهنا يكون عليه الاجتهاد، وتكون رؤيته الاجتهادية مغمورة في بحر فضيلته ومهمته الكبرى التي هو بصددها وهي إخضاع الناس لحكم الله .

وما هو من يسير الإثم: فهذا في مثل صورة ما لو تخلى الناس عن القيام بشريعة الله إلا طائفة، وهذه الطائفة عندها من الشهوات اليسيرة في الحكم والسياسة، فحينئذ لا يمنع إثمها اليسير من خيرها العميم، وصحيح أن الواجب التحرز من الإثم، إلا أن عدم التحرز منه لا يلغي فضلية القيام بشريعة الله، وتميز هذه الطائفة عن غيرها ممن لم يقم به كلية.

ويمكن أن نلحق بهذا القبيل ما عبر عنه شيخ الإسلام في بحثه لمسألة الملك والخلافة بـ (التعسر) ومراده تعسر قيام الأمراء والولاة بشريعة الله إلا بيسير من الإثم وحظوظ النفس (إذا تعسر فعل الواجب في الإمارة إلا بنوع من الملك فهل يكون الملك مباحاً كما يباح عند التعذر؟) [ الفتاوى 30-32 / 35 ] وله في هذا الموضع وغيره كلام مفصل في الموازنة بين الحسنات والسيئات مستضيء في تقريره بنور الكتاب والسنة وما اتفق عليه الفقهاء من قواعد المصالح والمفاسد عند تعارضها وتزاحمها.

0
مشروع النهضة عند علي عبد الرازق

علي عبد الرازق (1888-1966) :

ولد في قرية من قرى مصر الوسطى ولما بلغ العاشرة دخل الأزهر واتصل بالشيخ محمد عبده وفي عام 1910 دخل الجامعة المصرية لمدة عامين وحضر دروس نلينو في تاريخ الأدب العربي وسانتيلانا في تاريخ الفلسفة ، وفي عام 1911 حصل على العالمية ، وسافر إلى إنجلترا لدراسة الاقتصاد والعلوم السياسية ثم عاد إلى مصر بسبب نشوب الحرب ، وعين قاضياً في المحاكم الشرعية ، ولما نشر كتابه الإسلام وأصول الحكم قامت عليه اعتراضات شديدة واجتمعت هيئة كبار العلماء برئاسة شيخ الأزهر وقررت عزله من زمرة العلماء ومن القضاء فعاش بعد ذلك عيشة منزوية حتى وفاته .
لقد كان يمكن لدعوى العلمانية ألا تجد صدى بين الناس لو أنها لم تجد في شيخ أزهري مثل علي عبد الرازق نصيراً جريئاً لم يكتف بمجرد الدعوة وإنما ذهب إلى درجة الاعتقاد أن النصوص الشرعية تدعم قوله .
جاءت دعوى عبد الرازق بعد عام واحد من إلغاء الأتراك العثمانيين للخلافة فأثرت موجة شديدة من الردود والانتقادات ، وقد انطوت دعواه على دعوتين :
أولاً : فصل الشريعة عن النظام السياسي .
ثانياً : جعل نظام الخلافة ونظام القضاء على نظم غير إسلامية .
ويلزم عن الدعوى رد الحياة السياسية والاجتماعية بعد تحريرها من الدين إلى دائرة العلم الوضعي ، وهذا هوسبيل النهضة والتقدم عند عبد الرازق حيث قال " لا شئ في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا به واستكانوا إليه " ([1]) .
وقد لخص عبد الرازق دعوته في القول بأن الدين الإسلامي برئ من الخلافة وأنها ليست في شئ من الخطط الدينية ولا القضاء ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها لم يعرفها ولم ينكرها ([2]) .
لا شك في أن أدلة عبد الرازق لا تقوى أبداً أمام النقد الرصين ، فالزعم بأن الخطط والقواعد الإسلامية المتصلة بالجهاد والزكاة والغنائم والفئ والخراج وإقامة الحدود والقضاء أمور لا شأن لخا جميعاً بالدين هو تحد صريح لمعطيات النصوص الدينية والوقائع التاريخية الإسلامية ، أما القول بأن الدنيا أهون عند الله من أن يشغل بها فهو قول لا يكتسب قيمته في إطار ديني أو فلسفي إلا في سياق نظرة صوفية خالصة ، وأما القول أن النبي كان رسولاً يسمو على كل اهتمام اجتماعي وسياسي دنيوي وأن المسلمين قد انحرفوا برسالته وحرفوها فهو معادل للقول إن المسلمين لم يفهموا عن الرسول شيئاً ([3])  .
لكن لا شك أيضاً أن عبد الرازق قد كان على حق في نقده للتصور المتطرف الذي يحيط الخليفة بهالة من القوة والقداسة والسلطة التي لا حدود لها .
والحقيقة هي أن ما يؤخذ على عبد الرازق يمكن أن يرتد إلى أمرين :
الأول : تسخيره الشديد لقوى المنطق الجدلية والشكلية من أجل تسويغ قضية ذات أساس نفسي إرادي خالص هي رفض مبدأ الخلافة استجابة لبواعث تتصل برغبات سياسية .
الثاني : ممارسته لفضيلة الشجاعة في المنطقة الأقل خطراً تجنباً لسوء العاقبة فهو لم يجرؤ على مهاجمة رغبة سلطان مصر في التحلي بثوب الخلافة من أجل أن يحمي سلطاته بستار الدين ، ولم يجد أمامه إلا أن يثير المعركة مع الأوساط الدينية ، فبدلاً من أن يتصدى لخصمه الحقيقي ويقول له إن شروط الخلافة غير متوافرة فيه إطلاقاً ، تصدى للأوساط الدينية وزعم أن فكرة الإمامة باطلة أصلاً فأصابت الرمية الإسلام نفسه لا السلطان ([4]) .
هذا فضلاً عما أثاره بعض الباحثين أصلاً من أن الكتاب ليس من تصنيفه وإنما هو نقل غربي ، يتضح ذلك في الأفكار المنقولة واللغة الركيكة للكتاب .


(1) الإسلام وأصول الحكم ص 103 .
(2) المصدر نفسه ص 103 .
(3) أسس التقدم ص 339 .
(4) أسس التقدم ص 340 .

1
إصلاح وزارة الأوقاف


بمناسبة الإصلاحات التي يقوم بها الدكتور/ طلعت عفيفي وزير الأوقاف
هذا جزء من مقال للدكتور / محمد المسير رحمه الله عن إصلاح الأزهر
يوضح فيه جزءاً من رؤيته لإصلاح وزارة الأوقاف
كتب رحمه الله يقول:

يبقى تساؤل أخير وهو
إذا ضممنا أئمة المساجد إلى الوعاظ في إدارة واحدة للدعوة تحت لواء الأزهر الشريف، فماذا بقي لوزارة الأوقاف؟
والجواب هو أن وزارة الأوقاف في مصر تختلف عن مثيلاتها في العالم الإسلامي، فإن الأزهر الشريف لا يعرف إلا في مصر، ومصر لا تعرف إلا بالأزهر، فالأزهر هو حامي الحمى، وهو حامل اللواء، وهو الأب الحنون والأم الرءوم لكل عمل إسلامي في أرض الكنانة
ويمكن أن تظل وزارة الأوقاف ويكون دورها فيما يلي
رعاية شئون أوقاف المسلمين التي جادت بها نفوس خيرة في الماضي، والدعوة إلى الوقف الخيري بين أبناء المسلمين في الحاضر
بناء المساجد والإشراف على عمارتها
التعبير عن صوت الأزهر في مجلس الوزراء
تقديم المنح الدراسية لأبناء العالم الإسلامي
الإشراف على الجمعيات الإسلامية والتنسيق بينها
إدارة المقارئ وشئون القراء
رعاية الأقليات والمراكز الإسلامية في دول العالم
وبذلك نحقق لوزارة الأوقاف دورها المناسب الذي لا ينافس الأزهر ولا يشاركه، وتظل للأزهر الشريف ريادته ووحدته العضوية، ويصبح المنارة الشامخة في مصر المحروسة والعالم الإسلامي، يحمل الإسلام نورا وهدى للعالمين
وبعد؛ فهذه رؤيتي لإصلاح الأزهر والانطلاق به والتمكين له، أطرحها للمناقشة بين المخلصين من علماء الأزهر ومفكري الأمة، ولست حريصا على من يرضى أو يسخط حمية أو أنفة أو استعلاء، ولا أبتغي إلا وجه الله عز وجل، وأتمثل قول نبي الله شعيب { ِإنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}
وأذكر الجميع بقول هذا النبي الكريمَ{  بقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }
 
تعريب وتطوير محمد محمود
شخبطة © 2011 | عودة الى الاعلى
محمد محمود