0
جهاد الطلب و(سيادة الأمة)!

مما يملأ القلب كمداً أن تصبح شريعة الجهاد لإعلاء كلمة الله غريبة بين المسلمين بسبب ضغط الثقافة الغربية المهيمنة، غريبة حتى بين أهل المكان الذي أنزل الله فيه على نبيه : [قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] {التوبة:29}  
ومما يحزن أن ترى أحفاد الصحابة الفاتحين يغفلون عن حِكم الجهاد العظيمة ، بل ربما صادفت منهم من ينفي جهاد الطلب لأنه يخالف الحرية!
نحن حينما نعتقد اعتقاداً جازماً أن الله أمرنا بتبليغ هذا الدين وإلزام الناس به فنحن نعتقد أن شريعة الله هي كمال العدل يقيناً وقطعاً، وأن الله أمرنا بالعدل ونهى عن الظلم، فكل من لم يقبل أن تسود شريعة الله فهو ظالم يستحق العقوبة: [وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] {المائدة:50} [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {المائدة:45}  
كيف يكون الجهاد لإعلاء كلمة الله في البلدان كلها ظلماً والأرض كلها لله والخلق خلق الله وشريعة الله أكمل الشرائع وأعدلها؟! كيف يصبح تطبيق شريعة العدل الكامل في الظالمين الرافضين للعدل ظلماً لهم؟!
جاء كتاب (سيادة الأمة) مقرراً في آخر مسائله أن الجهاد في الإسلام مبرره الدفاع فقط، ولا شك أن جهاد الطلب يهدم فكرة الكتاب كلها.
نقل المؤلف كلاماً مشتبهاً لابن تيمية وابن القيم على غير وجهه تسبب في إفهام بعض القراء نسبة القول بمنع جهاد الطلب لهما رحمهما الله، وهو كلام مغلوط سأبين وجه خطئه في هذا المقال بإذن الله.
قبل أن أبين ذلك أود أن أنقل بعض النصوص عن الفقهاء من المذاهب الأربعة يتبين منها أن جهاد الطلب أمرٌ مستقرٌ في المذاهب الأربعة، وأن أي محاولة لإلغاء جهاد الطلب من التراث الفقهي ستكون محاولة فاشلة تفضحها دواوين المذاهب الأصيلة .
قال المرغيناني الحنفي صاحب كتاب الهداية:
" وقتال الكفار واجب وإن لم يبدؤوا ؛ للعمومات" . الهداية (2/809)
وقال :
" ولا يجوز أن يقاتل من لم تبلغه الدعوة للإسلام إلا أن يدعوه لقوله عليه الصلاة والسلام في وصية أمراء الأجناد ((فادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله)) ولأنهم بالدعوة يعلمون أنّا نقاتلهم على الدين لا على سلب الأموال والذراري فلعلهم يجيبون فنكفى مؤنة القتال".    الهداية (2/812)
وقال ابن رشد المالكي في بداية المجتهد :
" فأما الذين يُحارَبون فاتفقوا على أنهم جميع المشركين لقوله تعالى : ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله )) ، إلا ما روي عن مالك أنه قال : لا يجوز ابتداء الحبشة بالحرب ولا الترك ، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : ذروا الحبشة ما وذرتكم ..." (1/384)

ولا خلاف بيننا وبين أصحاب سيادة الأمة أن الحبشة أو الترك لو بدؤونا فإنّا ندفعهم، فهذا النقل واضح جداً في محل النزاع.
وقال الإمام الشافعي في الأم :
" دل كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على أن فرض الجهاد إنما هو على أن يقوم به من فيه كفاية للقيام به حتى يجتمع أمران:
أحدهما: أن يكون بإزاء العدو المخوف على المسلمين من يمنعه. [ وهو ما نسميه جهاد الدفع ] والآخر: أن يجاهد من المسلمين من في جهاده كفاية حتى يسلم أهل الأوثان أو يُعطي أهل الكتاب الجزية" [ وهو ما نسميه جهاد الطلب ]    (5/ 383)   الكلام بين الأقواس من إدراجي للتوضيح وليس من كلام الشافعي.
وقال :
" فإن كانت بالمسلمين قوة لم أُحب أن يأتي عليه عام إلا وله جيش أو غارة في بلاد المشركين الذين يلون المسلمين من كل ناحية عامة، وإن كان ذلك يمكنه في السنة مراراً بلا تغرير بالمسلمين أحببت ألا يدع ذلك كلما أمكنه. وأقل ما يجب عليه ألا يأتي عليه عام إلا وله فيه غزو حتى لا يكون الجهاد معطلاً في عام إلا من عذر".      (5/ 388)
وقال أبو المعالي الجويني الشافعي في نهاية المطلب:
" إذا كان الكفار قارّين في ديارهم غير متعلقين بأطراف ديار الإسلام فمقاتلتهم فرض على الكفاية". (17/397)
وقال ابن النجار الحنبلي في منتهى الإرادات :
" وأقل ما يُفعل -أي الجهاد- مع قدرة كل عام مرة إلا أن تدعو حاجة إلى تأخيره". (1/219)
ونقولاتهم في هذا أكثر من أن تحصر في مقال قصير .
يتبقى اعتراض مهم دائماً ما يرفعه أصحاب حرية الكفر وهو : أن هذا من الإكراه في الدين ويستدلون بآية [أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] {يونس:99}  وبآية [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] {البقرة:256}  وغيرها من الآيات.
وللإجابة عن هذا الاعتراض أقول :
أولاً : هناك أكثر من خمسة أقوال في معنى (لا إكراه في الدين) كلها لا تدل على معنى ما يطرحه هؤلاء، والعجيب أن من هؤلاء من يعيب على بعض الخطابات الشرعية التربية على القول الواحد ثم هم يمارسونه في أبشع صوره ، بل وبفهم مغلوط حتى لهذا القول الواحد !

ثانياً : أن الآيات كلها تتناول الإكراه في الدين ولا تتناول الإلزام بالشرع فزال التعارض بينها وبين الآيات الدالة على جهاد الطلب التي مقصوها دعوة الناس والإلزام بالشرع لا إجبارهم على الإسلام كقوله تعالى : [قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] {التوبة:29}  وقوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ] {التوبة:123}  فإخضاع الكفار لدولة الإسلام وإلزامهم بحكمنا لا علاقة له بإجبارهم على الدين فنحن لا نجبرهم على الدخول في دين الإسلام، كل هذا طبعاً على التسليم بالمعنى الذي ذكروه وأنه غير منسوخ، وإلا ففي معنى آية (لا إكراه في الدين) أقوال أخرى تراجع في كتب التفاسير .
أما وجه المغالطة في ما ذُكر في ( سيادة الأمة )، فهو أن صاحب الكتاب خلط بين مسألتين مختلفتين: 
1- حكم جهاد الطلب وجهاد الدفع.
2- هل علة القتل الكفر أم القتال؟
أورد صاحب الكتاب نصوصاً لابن تيمية وابن القيم في المسألة الثانية، في سياق يوهم أنهما يتحدثان في المسألة الأولى ويلغيان جهاد الطلب ، ويقولان بأن الجهاد إنما هو للدفع فقط، وهذا غلط ظاهر.
فهما كبقية الفقهاء يقولان بجهاد الطلب ، وأما تلك النقول فإنها في مسألة علة القتل ، ومعنى المسألة باختصار : في جهاد الطلب، من نقتل ؟ هل نقتل كل كافر؟ أم نقتل من كان من أهل القتال أو خرج لقتالنا؟
قول الجمهور: أنه لا يقتل إلا من كان من أهل القتال ومن يعاندنا إذا أردنا إظهار دين الله، أي من يرفض التخيير بين الإسلام أو الجزية ويختار القتال.
قول الشافعية: أن القتل لكل من كان كافراً، واستثنوا النساء والصبيان.
هذه مسألة مختلفة، يرى ابن تيمية وابن القيم فيها رأي الجمهور ، أما قولهما في جهاد الطلب فتبينه النقول التالية:
يقول ابن تيمية:
" كل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له فإنه يجب قتاله" .   السياسة الشرعية 153
بل يقول في نص يلغي فكرة سيادة الأمة بالمعنى الذي يطرحه صاحب الكتاب بشكل واضح : 
" كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت بالشهادتين، فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا..... وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة". مجموع الفتاوى (28/510)

ومما أحب نقله - استطراداً - مما يزيد وضوح المجافاة بين رأي ابن تيمية وبين ما يطرحه صاحب (سيادة الأمة) قول ابن تيمية :
" ومن لم يندفع فساده إلا بالقتل قتل، مثل المفرق لجماعة المسلمين، والداعي إلى البدع في الدين". مجموع الفتاوى (28 / 108-109) وأصحاب الديمقراطية يمنعون أي عقوبة على مجرد الرأي المبتدع أو الدعوة إليه فضلاً عن القتل !
وفي نفس الكتاب الذي نقل منه صاحب (سيادة الأمة) (كتاب قاعدة في قتال الكفار ومهادنتهم) ثلاث كلمات لابن تيمية لا أدري أين موقعها من فكرته :
- يجوز قتال اليهود والمجوس بالنص والإجماع حتى يعطوا الجزية . 148-149
- الأمَة المملوكة تُقتل للقصاص والردة . 189
- دار الإسلام لا يُترك فيها إلا مسلم أو كافر بجزية وصغار . 208
أما ابن القيم فيذكر بوضوح مراحل تشريع الجهاد فيقول :
" ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقال : ( [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] {البقرة:190}  ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، وكان محرماً ثم مأذوناً به ، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال ، ثم مأموراً به لجميع المشركين إما فرض عين على أحد القولين، أو فرض كفاية على المشهور" .    زاد المعاد (3/64)
بل قال في الفروسية :
" جهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً وعقلاً، وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين" . اهـ
هذا هو ابن القيم الذي أفهَمنا بعضهم رأيه خطأً، لا يقول بمشروعية جهاد الطلب فقط، بل يعتبر القائم به من سادات المؤمنين !
إن الحديث عن شروط جهاد الطلب، وعن ضرورة مراعاة المصالح العظمى للإسلام، أو الحديث عن بعض الأخطاء في تطبيق بعض المسلمين للجهاد وانتقادها ، إن هذا كله شيء، ومحاولة إلغاء شريعة الجهاد شيء آخر، فالخطأ لا يواجه بالخطأ من الجهة الأخرى، وإذا قوبل الانحراف بالانحراف ضاع الحق وغابت معالمه.
بكل تأكيد أننا حين ننقل نصوص الأئمة في جهاد الطلب فهذا يعني بالضرورة أن فكرة (سيادة الأمة) بالمعنى الذي يطرحه صاحب الكتاب سيصبح أمراً مرفوضاً عند أئمة الإسلام، فأين خيار الأمة الكافرة التي لا تريد شريعة الله؟ وهذا ما ذكره صاحب الكتاب نفسه حينما قال في كتابه : ( الجهاد القتالي بهذا المفهوم يعارض مبدأ سيادة الأمة إذا كان الهدف والمقصد منه إلزام شعوب العالم بالشريعة الإسلامية ) 189 
تعليق أخير : في جهاد الطلب كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث قواده لفتح البلدان ويأمرهم بتخيير الكفار بين الإسلام أو الجزية والرضوخ لدولة الإسلام، أو الحرب، ثم جاءنا أصحاب الديمقراطية يخيّرون الأمة المسلمة بين الإسلام أو الكفر !
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
تعريب وتطوير محمد محمود
شخبطة © 2011 | عودة الى الاعلى
محمد محمود