0
ليكن عمرنا كله ... كرمضان الأخير


هكذا يجب أن يكون رمضاني الأخير، 
بل هكذا يجب أن يكون عمري كله.. 
وماذا لو عشت بعد رمضان؟! 
هل أقبل أن يراني الله عز وجل في شوال أو رجب لاهيًا ضائعًا تافهًا؟!
وما أروع الوصية التي أوصى بها أبو بكر الصديق أبا عبيدة بن الجراح -رضي الله عنهما- وهو يُوَدِّعه في رحلته الجهادية إلى الشام.. قال أبو بكر: "يا أبا عبيدة، اعمل صالحًا، وعش مجاهدًا، ولتتوفَّ شهيدًا"(1).
يا الله! ما أعظمها من وصية! 
وما أعمقه من فهم!
فلا يكفي العمل الصالح؛
 بل احرص على ذروة سنام الإسلام.. 
الجهاد في سبيل الله.. 
في كل ميادين الحياة.. 
جهاد في المعركة مع أعداء المسلمين.. 
وجهاد باللسان مع سلطان جائر.. 
وجهاد بالقرآن مع أصحاب الشبهات.. 
وجهاد بالدعوة مع الغافلين عن دين الله.. 
وجهاد للنفس والهوى والشيطان.. 
وجهاد على الطاعة والعبادة، 
وجهاد عن المعصية والشهوة.
إنها حياة المجاهد..
وشتَّان بين مَنْ جاهد لحظة ولحظتين، 
وبين مَنْ عاش حياته مجاهدًا!
ثم إنه لا يكفي الجهاد!!
بل علينا بالموت شهداء!
وكيف نموت شهداء ونحن لا نختار موعد موتتنا، 
ولا مكانها، 
ولا طريقتها؟!
إننا لا نحتاج إلى كثير كلام لشرح هذا المعنى الدقيق، 
بل يكفي أن نُشير إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتضح المقصود.. 
قال: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ».
ولتلحظْ -أخي المسلم، وأختي المسلمة- كلمة "بصدق" التي ذكرها الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم.. فالله مطَّلعٌ على قلوبنا، مُدرِك لنيَّاتنا، عليمٌ بأحوالنا.

0
سيادة الأمة ... قبل تطبيق الشريعة


- 1 -

في ظل الثورات العربية، وتحرير إرادة الشعوب، وإزالة الأنظمة الدكتاتورية؛ يبرز مشروع الإسلام السياسي كمرشح قوي للحكم وإدارة البلاد لأجل الانتقال والتحوّل بالواقع السياسي من فضاء الاستبداد إلى فضاء الديمقراطية، ومن ثقافة القمع والإقصاء والخوف التي رسختها الأنظمة الدكتاتورية إلى تعزيز وترسيخ ثقافة الحريات والتعددية وحقوق الإنسان، ومن عوالم الفساد والحرمان والجهل والظلم الاجتماعي إلى عوالم التنمية والتقدم العلمي والرفاه والعدالة الاجتماعية، ونحو ذلك من الاستحقاقات الثورية التي من أجلها بذلت الشعوب دماءها. وهذا يعني أن الإسلام السياسي أمامه اختبار تاريخي في بالغ الصعوبة والحرج، وأن بين يديه أمانة جسيمة تحمّلها عبر دماء الشهداء المناضلين الذين كانوا سببا في إزالة الدكتاتورية وتحرير إرادة الأمة.

إن على التيارات الإسلامية بكل أطيافها وأنواعها - قبل أن تخوض تجربة الحكم والسياسة - أن تطرح على نفسها السؤال التالي :

ما الذي تريده الشعوب العربية الآن في هذه المرحلة ؟ ما هو الشيء الذي ناضلت الشعوب من أجله وقدمت دماءها رخيصة له؟ لماذا دفعت الشعوب العربية هذا الثمن الباهظ؟ وما هو المقابل جراء هذه التضحيات الذي بذلتها الشعوب وما زالت تبذلها؟

لا أظن بأن ثمة خلاف في أن الشعوب العربية الثائرة لم تخرج إلا لأجل تحقيق (الحرية والكرامة والعدالة)، وواقع هذه الثورات ومشاهداها المتنوعة والمتكررة تؤكد هذا الدافع بوضوح، تؤكد بأن الشعوب إنما خرجت لكي تطالب بحقها السيادي على أوطانها وعلى منافعها ومواردها ومصارفها، وأن تكون مصدرا لجميع السلطات وأن تكون مراقبة ومحاسبة لحكوماتها التي تختارها بنفسها وتفوضها في إدارة شؤون البلاد. خرجت الشعوب لكي تحكم، لكي تكون لها السيادة، لكي تحرر البلاد من عصابات الفساد وأصحاب المنافع والمصالح الشخصية الذين تمكنوا على رقاب الناس عبر التحالف مع الأنظمة الفاسدة، خرجت لكي تمارس حقها في تأسيس مجتمعها المدني وحراكها الاجتماعي على كافة الأصعدة والمجالات دون وصاية أو قمع أو إرهاب. خرجت لكي تحطم سجون الباستيل المنتشرة في البلاد العربية وأن تزيل زبانية (الباستيل) وثقافة (الباستيل) وقضاة ووزراء داخلية (الباستيل).

في كلمة واحدة.. خرجت الشعوب لأجل سيادتها! نعم لـ(سيادتها) وليس لشيء آخر، وليس لدافع أيديولوجي سواء كان عقائدي ديني أو فلسفي وضعي.

ولكي نكون أكثر وضوحا: لم تخرج الشعوب لأجل تطبيق الشريعة مع شرف هذا المطلب وأحقيته للمجتمعات الإسلامية بلا شك، ولكن الشعوب لم ترفع هذا الشعار خلال مظاهراتها واحتجاجاتها، لم تخرج لأجل إحياء منهج أهل السنة والجماعة كما يظن البعض، أو لأجل نصرة مذهب السلف، لم تخرج لأجل محاربة المنكرات السلوكية، أو لكي تحطم المزارات والأضرحة، لم تخرج لأجل تطبيق المصارف الإسلامية أو لأجل السماح بالتعدد في الزواج أو لأجل فرض النقاب أو الحجاب أو منع الخمور والمراقص الليلية. لم تخرج الشعوب لأجل هذه المطالب. وإنما خرجت لكي تسترد سيادتها على أوطانها أولا، ولكي تكون هي المصدر الوحيد للسلطة وللشرعية وليس الفرد المتغلب ولا الحزب الحاكم الأوحد. لا يعني أن الأمة ضد هويتها الإسلامية ومرجعيتها الشرعية. بل نحن نعتقد بأن الشعوب هي أكثر أصالة ومحافظة لهويتها ولقيمها من أنظمتها الفاسدة البائدة، ولكن لم يكن هذا هو الدافع في خروجها وثورتها وإسقاطها لأنظمتها.

إذن استعادة (السيادة) على الأوطان هو الذي أخرج الشعوب العربية الثائرة ودفعها لبذل الدماء والتضحيات الجسيمة.

- 2 -

ماذا يعني هذا الكلام؟

يعني.. أنه لا يحق لأحد - بعد تحقيق سيادة الأمة - أن يفرض شيئا على هذه الأمة دون الرجوع إلى الاحتكام إلى إرادتها وإلى الدستور الذي اختارته عبر صندوق الاقتراع. فإن اختارت الأمة منظومة القيم والمبادئ الإسلامية كمرجعية عليا وإطارا للتشريع والقوانين فلا يحق لأحد أن يفتئت عليها أو يفرض ما يناقض ويعارض مرجعيتها الدستورية.

وإن اختارت شيئا آخر غير المرجعية الإسلامية؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها بشيء لا تؤمن به، لأنه لا خير في قيم ومبادئ لا تؤمن بها الشعوب ولا تتمثلها وتطبّقها إلا خوفا ونفاقا وتقيّة، وليس من مقاصد التشريع تحويل المجتمع إلى منافقين، وإنما غاية التشريع إصلاح الناس وتزكيتهم وتربتهم على قيم الإسلام. ولهذا كانت حرية المعتقد والضمير في القرآن من القضايا المحكمة والكلية التي لا ينبغي معارضتها أو تخصيصها أو نسخها بالمتشابهات والنصوص الجزئية وقضايا الأعيان، واستعراض آيات القرآن تؤكد هذا المعنى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} (يونس 108) {يا أيها الناس عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون} (المائدة 48) {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف29) {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلَّ فإنما يضلَّ عليها وما أنا عليكم بوكيل} (يونس 108) {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} (الرعد 40) {فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين} (النحل 82) {فإن أعرضوا فما أرسلنا عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ} (الشورى 48) {فذكر إنما أنت مذكّر. لست عليهم بمسيطر} (الغاشية 21-22) ونحو ذلك من الآيات التي لا يتسع المقام لإحصائها. ولهذا في مثل هذا الخيار ليس على دعاة الإسلام سوى أن يمارسوا حقهم في البلاغ وفي دعوة الناس إلى مبادئ الإسلام والتبشير بقيمه وأخلاقه بالجدال والحكمة والموعظة الحسنة دون الفرض على الشعوب، لأن الفرض لا يكون إلا عبر إرادة الأمة من خلال مؤسساتها التشريعية والدستورية والقضائية. فإذا آمنت الأمة بقيم الإسلام انعكس ذلك بشكل ضمني على واقعها وتجسّد بصورة آلية في منظوماتها التشريعية والدستورية، ولكنّ ذلك لن يتحقق ما لم تكن (السيادة) بيد الأمة بمجموعها لا بيد فرد متغلب أو فئة أو حزب معين يحتكر السيادة دون الأمة.

لا يعني أن الشعب هو معيار المبادئ والقيم والأخلاق كما يتصور البعض. بل المعيار من حيث المنطق المعرفي هو المرجعية التي يؤمن بها الإنسان سواء كانت دينية عقدية/ أو فلسفية وضعية، ومعرفة الحلال والحرام في الإسلام لا يكون من خلال الاستفتاء الشعبي وإنما من خلال مصادر التشريع في الإسلام وعلى رأسها الكتاب والسنة.

والحكماء والأحبار والنظّار والفلاسفة عبر التاريخ ما كانوا يطرحون مفاهيم: الحق والباطل/ والخير والشر/ والنافع والضار/ والعدالة والظلم من خلال التصويت واللجوء إلى الأغلبية، بل كانوا يطرحون تلك المفاهيم ويؤصلونها ويؤسسونها من خلال مرجعياتهم وقناعاتهم وخلفياتهم الدينية والثقافية والفلسفية، فهي الحاكمة وليس الشعب، فالشعب ليست وظيفته فلسفة وتنظير وتبرير القيم والأفكار كما يتصور البعض. إنما وظيفة الشعب تنحصر في خلع السلطة والسيادة على تلك القيم والأفكار وتحويلها من مجرد قناعات أخلاقية إلى قوانين دستورية سيادية تطبيقية. بعبارة أخرى: وظيفة الاستفتاء هو الاحتكام إلى إرادة الناس حين تتصارع القيم والإرادات فيتم حسمها بمسار سلمي وحضاري لا بمسار الحروب والاقتتال والإرهاب والقمع والإقصاء وسفك الدماء وانتهاك الحرمات، كما كانت عادة الشعوب قديما؛ حيث كان المنتصر والمتغلّب هو من يملك الحقّ في فرض قناعاته وإراداته دون الرجوع إلى إرادة الشعوب.

أعيد وأكرر.. إن النقاش هنا ليس حول القيم في ذاتها من أين تستقى وما مصادرها؟ وإنما النقاش كيف نجسّد تلك القيم؟ كيف نحولها من قناعات إيمانية فكرية أخلاقية إلى مرجعية دستورية ذات سيادة مطلقة ؟ مساران لا ثالث لهما : إما عن طريق السيف والتغلب والقهر والإكراه وإما عن طريق إرادة الأمة الحرة والمستقلة!

وهذا يأخذنا إلى نقاش فلسفي لا يتسع المقام للاستطراد فيه؛ ولكن يكفي أن أشير إليه باختصار وهو: أن الاعتقاد بامتلاك أو اكتشاف الحقيقة لا يتضمن السلطة في فرضها على الآخرين، مفهوم الحقيقة مجرّد عن سلطة الإكراه، شرعية الحقيقة لا يلزم منه شرعية السلطة، شرعية الحقيقة لها مرجعيتها ومصدريتها المعرفية الدينية أو الفلسفية، بخلاف مرجعية السلطة التي إما أن يكون مصدرها: القوة والتغلب والتملك القهري، وإما أن يكون مصدرها: تفويض الآخرين بها لهيئة مخصوصة (كالحكومة) أو لفرد معين كوكيل عنهم. إذن سؤال الحقيقة يختلف تماما عن سؤال السلطة.

وهنا تظهر إشكالية المعارضين للديمقراطية، فيتصورون أن الديمقراطية تتيح للشعب بأن يحلل ويحرم من حيث الدين، وهذا غير صحيح، فالحلال والحرام في الإسلام وفي الأديان عموما لا تتم معرفته إلا من خلال مصادر التشريع وليس من خلال أغلبية الشعب. ومجالس التشريع في الديمقراطية ليست محل للفتوى ولبيان الأحكام الشرعية، وإنما هي محلّ لانبثاق وصناعة السلطة عبر القوانين الملزمة، وفرق بين أن يكون المجلس مصدرا للحكم الشرعي وبين أن يكون مصدرا لمنح السلطة والفرض والإجبار عبر القوانين الملزمة.

إذن، للحقائق والقناعات والأفكار مصادرها المعرفية بحسب مرجعية كل إنسان، لكن من يملك الحق في فرض هذه الأفكار والقيم ويجعلها مجسدة في أرض الواقع؟ قديما - كما قلنا - كان الأقوى والمنتصر والمتغلب هو الذي يفرض إرادته وقيمه وأفكاره على الشعب المغلوب والمقهور. بغض النظر هل كانت تلك الأفكار والقيم صالحة في نفسها أم فاسدة. وبغض النظر هل ذلك المتغّلب صالح في نفسه ونزيه وعادل في تطبيق تلك القيم أم هو مستغل وفاسد ومتلاعب وظالم. بغض النظّر عن هذه الاعتبارات الخطيرة يبقى أن الشعب مهمّش ليس له إرادة له أمام إرادة الحاكم المطلقة، ولا يحق له أن يختار قيمه وأفكاره وإراداته التي يؤمن بها ويعتقد بصلاحها.

- 3 -

من هنا كانت سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة، وتقديمنا لـ(السيادة) هنا وجعلها أولية ليس على (الشريعة) وإنما على (تطبيق) الشريعة، وفرق بين (الشريعة) وبين (تطبيق) الشريعة. الشريعة: عبارة عن معطى إلهي منزل مستمد من الوحي، ومتمثل في المحكمات والقطعيات والكليات الشرعية، وأما (التطبيق) فهو فعل بشري اجتهادي تاريخي لذلك المعطى الإلهي. فالتطبيق ليس دينا بالضرورة بل قد يكون مخالفا للدين، وقد يكون مفسدا لغايات التشريع ومناقضا لمقاصده.

وهذا يعني أن (تطبيق الشريعة) قد يكون معارضا لـ(الشريعة). وبالتالي فنقد ذلك التطبيق ورفضه وإنكاره لا يلزم منه إنكار ورفض (الشريعة) في نفسها، فالتطبيق محكوم بمبادئ وكليات ومقاصد (التشريع). وليس كل تطبيق هو موافق لمقاصد الشريعة.

لهذا فأولية مبدأ (سيادة الأمة) هي بالنسبة للتطبيق لا بالنسبة للشريعة. لأن مبدأ (سيادة الأمة) مبدأ شرعي في الأساس، أي عنصر من عناصر الشريعة وفرد من أفرادها. بخلاف التطبيق البشري الذي قد يتضمن أولية مبدأ (سيادة الأمة) وقد لا يتضمنه. وكم طُبِّقت الشريعة عبر التاريخ في كثير أو قليل من أفرادها بدون احترام (سيادة الأمة)، ولكن هذا (التطبيق) هل كان موافقا لمقاصد وغايات التشريع، أم كان مآله التلاعب والاستغلال والتعطيل والتحريف من قبل الحاكم الفرد الذي كانت السيادة المطلقة بيده دون الأمة ؟ التاريخ والواقع المعاصر يقول الثاني، إلا في حالات استثنائية ونادرة بسبب عدالة ونزاهة وفقه الحاكم، لكنه لا يلبث أن يموت ذلك الحاكم ويعود الأمر كما كان عليه من التلاعب والاستغلال والتعطيل. ولهذا فسيادة الأمة هو السياج الضامن، والفضاء الآمن، للتطبيق الأمثل للشريعة، حتى تكون رحمة وعدلا لا آصارا وأغلالا فيكفر بها الناس.

- 4 -

قد يقول قائل: السيادة في الإسلام للشريعة فقط. وليس للفرد ولا للشعب؟

الجواب: أن هذا القائل لديه إشكالية في فهم طبيعة الشريعة، فهو لا ينظر إلى الشريعة على أنها عبارة عن منظومة من القيم والمبادئ والأحكام، وإنما ينظر إليها كأنها أشبه بالكائن الحي الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويجلس على أريكته ويفرض قيمه وإراداته على الناس. هكذا يتصور البعض! ولا أقول هذا مجرد تصوير (كاريكاتوري)!! بل البعض فعلا يشعرك بأن الشريعة هكذا في تصوّره، ولهذا فهو دائما يقابل بين سيادة الأمة وسيادة الشريعة، فيقدّم سيادة الشريعة على سيادة الأمة، وكأن قيم الشريعة كائنات حية تملك الإرادة والقدرة.

وبالمناسبة؛ هذا التصور الواهم كان حاضرا في ذهنية الخوارج قديما (المحكمة الأولى) حين رفعوا شعار (لا حكم إلا لله)، وذلك عندما ذهب علي رضي الله عنه ومعاوية إلى التحكيم فاختار عليٌّ أبو موسى الأشعري واختار معاويةُ عمرو بن العاص. فاعترض الخوارج على ذلك بأنه (لا حكم إلا لله) أي أن الحكم لله وحده وليس للرجال!! فردّ عليهم أمير المؤمنين رضي الله عنه: "القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال" (الطبري 5/66). فالخوارج كانوا يظنون بأن منح السيادة القضائية للحكمين (أبي موسى/ وابن العاص) يعارض ويناقض سيادة الشريعة. فردَّ عليهم أمير المؤمنين بأن الشريعة لا تنطق بنفسها وإنما يتكلم بها الرجال.

نعم؛ الشريعة لها سيادتها المطلقة من حيث اعتقاد المؤمن في نفسه، ولكنها تبقى سيادة علمية معرفية إيمانية، لا يمكن أن تتجسد في الواقع إلا عبر إرادة الأمة، الأمة هي التي تمنح الشريعة السيادة الفعلية وتجسّدها إلى واقع معاش، هي التي تحول قيمها ومبادئها إلى قوانين وتشريعات دستورية، وليس هذا خاص بالشريعة فحسب، بل أي منظومة قيمية وأخلاقية وفلسفية لا يمكن أن تتجسد في الواقع إلا عبر إرادة الإنسان وقدرته البشرية. وهذا الإنسان إما أن يكون حاكما متغلبا يملك بمفرده السلطة والسيادة المطلقة، وإما أن تكون الأمة بمجموعها؛ هي التي تملك السلطة والسيادة بحيث تتفتت السيادة بين أفرادها ولا يختص بها فرد دون فرد آخر. نحن إذن أمام خيارين لا ثالث لهما. إما الشعب وإما الفرد. وليس إما الشعب وإما الشريعة. لأن النقاش ليس حول (مرجعية الشريعة) كما يظن البعض، وإنما حول مصدر السلطة والسيادة التي تحوّل تلك المرجعية إلى قوانين دستورية ذات سلطة وسيادة مطلقة.

ونحن نعتقد بأن الأمة بمجموعها هي المخاطبة بالتشريع وهي المكلفة بالتطبيق وليس فردا أو فئة دونها. وغالب التكاليف العامة في القرآن موجهة إلى الأمة بمجموعها وليس إلى فرد بعينه.

أعرف بأن هناك كلام كثير حول هذا الموضوع وثمة إشكالات وتساؤلات، ولكن المقام لا يتسع لأكثر من هذا، لهذا سأقف هنا. ولكن أخير ا.. أتمنى أن يتحول ذلك الشعار الأثير :

(الإسلام هو الحل) إلى شعار (سيادة الأمة هي الحل)!

0
وطن ... للصامتين

ابنتي .. عن وطني تسألين؟
حيّرك السؤال .. وتهت أنا في الأجابة..
وكم أحب أن أجيبك .. وكم أخشى من الكذب ..
***
ابنتي..
هل تسمحين لي أن أستعير وجهك المطمئن .. وابتسامة فألك..
اعذريني .. لم يعد في رصيدي من هذين ما يكفي.. وأنا أحبك متفائلة..
لذلك دعينا نمحو سبورة الذكريات .. وأنا هنا .. سأتخيل هذه الكوة بوابة ضوء ..
وأنت هناك أشرعي النوافذ.. ننظر للأفق سوياً .. ونلتقي في مداه..
ونقرأ ما على السبورة .. فنمحو ..
المساحات التي أفرغها الظالمون من أبنائها .. ليست وطناً .. فنمحو ..
اللحظات التي مزقت أي صورة تجمعني بك .. ليست وطناً .. فنمحو ..
الزيارات التي حرّمها سعادته/طال عمره .. ليست وطناً .. فنمحو ..
دماء القمصان التي أروك إياها وهم يبكون .. ليست وطناً .. فنمحو ..
الليالي التي أهدتك لحاف الوحدة وشعور اليتم  .. ليست وطناً.. فنمحو..
الأخاديد التي صنعت تضاريسها الدموع في وجنتي أمك الصابرة .. ليست وطناً .. فنمحو..
الصحافة التي هي بين قوسين (خيانة) .. وخارج قوسيها (كذب).. ليست وطناً .. فنمحو ..
التقارير التي يرصفها مجرمو السلم .. يبيعوا بها نتفاً باقية من كرامة.. لعل نتفاً من (شرهة) ترتشفها الجيوب .. ليست وطناً.. فنمحو..
هذه (الوشوشات) التي يدلقها كل جيراننا في آذان أبنائهم .. كلما مررنا بهم .. كي لا يردوا السلام على المتهمين من أمثالنا.. ليست وطناً .. فنمحو ..
شائعات ترينها.. وتقرئينها .. تحشرنا في تهمة معلبة.. لكي نباع في سوق الدعاية.. ليست وطناً .. فنمحو
***
ابنتي..
إن سنواتي السبع في السجن .. سبع بقرات سمان..
عشت فيها بعيداً عن الفساد..
عن الوجوه الكالحة التي تسرق كل يوم.. ثم تبتسم لنا لتصطنع البراءة..
لم أعد أرى الظالمين نهاراً.. ولا العاصين جهاراً..
لقد جمع لي وطني هنا الصالحين .. فهم حولي بوجوه ملائكية.. وكلمات تنبض بالصدق ..
وأمنيات تبتعد بنا عن رائحة الطين..
كلما تحسست حائط السجن.. تعرفت على أجدادي الذين لن تقرئيهم في بطاقتي ..
أجدادي الذين نطقوا الحق .. فحاضر التاريخ عنهم..
وسجنوا في المكان .. ففتحت لهم أبواب الزمان..
فإذا سألتك المعلمة عن اسم أبيك يوماً .. فارفعي رأسك إلى أعلى نقطة في السماء ..
ثم اذكري اسمي كاملاً .. وأخبريها أنني أنتسب إلى ابن جبير وابن حنبل .. وابن تيمية والعز..
وإذا غلبتك الدموع .. فلا يغلب قلبك اليأس ..
وإن زارك الحزن .. فقولي له .. أنني والدك .. وأنني لا أحبه..
ثم حاولي الابتسام .. فإنني في ظلامي هنا..
أشرق فرحاً .. كلما ابتسمت هناك..
***
ابنتي ..
إذا انثالت بك خطواتك نحو المدرسة بدوني ..
ورأيت الطالبات يودعن آباءهن على بابها..
فافتحي دفترك واكتبي .. "وطني كثيرٌ صامتوه" ..
فأنا هنا يا ابنتي .. كي لا يزيد الصامتون ..
كي لا يصبح الوطن ليلاً .. لا ينشط فيه إلا اللصوص..
***
ابنتي..
أبلغي أمك السلام ..
إن قلبي لا يحتمل أن أقول لها غير هذا ..
فقد رفعت رأسها بي ..
يوم طأطأه الرجال
***
ابنتي..
إذا أشرقت شمس الصباح .. فاخرجي.. 
واستقبلي الشمس.. وابتسمي ..
فإن للغد حكاية .. حتماً سيكتبها الفرح..

0
نجوم ... السماء

كل مسلم عاقل يعلم أن الصحابة الكرام - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - هم أفضل الخلق بعد الرسل والأنبياء ، وأن قلوبهم أنقى وأتقى قلوباً بعد قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلوب الرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ، وهم أبر هذه الأمة  قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً ، وأتقاهم لله - تعالى - ، وأكثرهم خشية لله - تعالى - ، وأفضل منا عند الله - عز وجل - .
     ومن أصول أهل السنة والجماعة حب صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم صحابة خاتم الرسل والأنبياء وهم نقلة التشريع , ومن الذين ذكروا تلك الأصول العلامة أبو جعفر الطحاوي - رحمه الله تعالى - بقوله : (ونحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -   , ولا نفرط في حب أحد منهم ، ولا نتبرأ من أحد منهم , ونبغض من يبغضهم , وبغير الخير يذكرهم . ولا نذكرهم إلا بخير ، وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان . ونثبت الخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أولاً لأبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - , تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة , ثم لعمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - , ثم لعثمان - رضي الله تعالى عنه -   , ثم لعلي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - , وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون , وأن العشرة الذين سماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبشرهم بالجنة على ما شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -   , وقوله الحق , وهم : أبو بكر , وعمر , وعثمان , وعلي , وطلحة , والزبير , وسعد , وسعيد ، وعبدالرحمن بن عوف , وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - , ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وأزواجه الطاهرات من كل دنس ,   وذرياته المقدسين من كل رجس ؛ فقد برئ من النفاق . وعلماء السلف من السابقين , ومن بعدهم من التابعين - أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر - لا يذكرون إلا بالجميل , ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل).
     وقد ذكر فضلهم سبحانه وتعالى في كتابه العظيم في مواضع عديدة منها قوله تعالى: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)) , قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - : (ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك - رحمه الله تعالى - , في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - ، قال : لأنهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية . ووافقه طائفة من العلماء على ذلك . والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة , ويكفيهم ثناء الله عليهم , ورضاه عنهم . ثم قال : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ) من هذه لبيان الجنس , (مَغْفِرَةً) أي : لذنوبهم . (وَأَجْرًا عَظِيمًا) أي : ثواباً جزيلاً ورزقاً كريماً , ووعد الله حق وصدق , لا يخلف ولا يبدل , وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم , ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة , رضي الله عنهم وأرضاهم , وجعل جنات الفردوس مأواهم ، وقد فعل . قال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى , حدثنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن أبي صالح ، عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه).
     وجاء في صحيح الإمام مسلم - رحمه الله تعالى - عن أبى بريدة عن أبيه - رضي الله تعالى عنهما -   قال: صلينا المغرب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -   ثم قلنا : لو جلسنا حتى نصلى معه العشاء قال : فجلسنا فخرج علينا فقال: (ما زلتم ههنا ؟) قلنا : يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلى معك العشاء قال : (أحسنتم أو أصبتم) قال : فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال : (النجوم أمنة للسماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) , قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى - : (معنى الحديث أن النجوم مادامت باقية فالسماء باقية ، فإذا انكدرت النجوم وتناثرت في القيامة وهنت السماء فانفطرت وانشقت وذهبت ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون) أي : من الفتن والحروب , وارتداد من ارتد من الأعراب واختلاف القلوب ونحو ذلك مما أنذر به صريحاً وقد وقع كل ذلك. قوله - صلى الله عليه وسلم - : (وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) معناه من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن فيه ، وطلوع قرن الشيطان وظهور الروم وغيرهم عليهم وانتهاك المدينة ومكة وغير ذلك وهذه كلها من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - ).
     وختاماً .. فإن الصحابة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - نجوم وزينة سماء هذه الأمة , والشرف كل الشرف في اتباعهم , وبذل كل غالٍ من أجل الذب عنهم وحفظ مكانتهم ونشر محبتهم , وقد وردت الأحاديث الكثيرة التي بلغت عنان السماء في فضلهم لأنهم في الحقيقة حلقة الوصل بين الأمة وبين نبيها - صلى الله عليه وسلم - فإذا قطعت هذه الحلقة بأي طريقة يعني قطع صلة الأمة بنبيها - صلى الله عليه وسلم - , وبالتالي فلا يجوز أن يناقش في عدالة الصحابة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - بعد عدالة الله تعالى ورسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - لهم , ومن فضله تعالى أن منَّ على الصحابة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - بالصحبة ، فلا يجوز لغيرهم أن يقيس نفسه بهم وأن يجعل من نفسه حكماً عليهم . نسأل الله العلي القدير أن يجمعنا برسولنا - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام ووالدينا ومن أحببناهم في الله وأحبونا فيه في الفردوس الأعلى.

0
ويْحك أتدْري ما الله ..؟!

بسْم الله باديْ أمْري ..

أسَطرُ كلمِي على برَكاته .. وأخُطه بـ عوْنه ومّنه ..

أطلبُه قبُوله .. وأرجُوه خَلوصَه ..

وأن يُعينَني على إحسَـانه ** ويُخرجَ الثمرَ منْ أكمَامه !
فهُو حسْبُ من توَكلَ عليْه ** ومُكـرمٌ عبـدا توجَـه إليْـه !

سُبحَانه ..

ماذا يَقولُ الراقمُ عنه ..؟!
ولوْ مُن عليْه بـ مَنطقِ سَحْبَان .. وأُوتيَ أزمَة البيَان !

كيْفَ يبْدءُ ناطقٌ الكلمَ عنِ الله ومن أيْن ..؟!
وأسْجالُ الكلمِ إذا جمعَها أسْتحيَت فـ تكَادُ منَ فرْط المهَابة تهرُب ..
والحُروف يتغشَاها الخجَلُ فتفرُ إجلالا ..

لـ فرْط يقيننا أنا لوْ جعلنَا بحَار الدنيَا مدَادَ أقلامِنا لـ نسَطرَ بها على صُحُفِ الأرْضِ ثناءً على الرحمَن , وعِرفانا بمقامِه , ما أفصَحنا عنْ همسَة مما يكمُن في حنايَا أفئدتنا منْ معَانيَ حُبه - سُبحانه - ..

ولوْ كتبنَا بِدمَانا ماتكنُ صُدورنا لـه , مابلغنَا رذاذا منْ غطمْطمٍ أفضَاله , ولاوفيْنا بـِ شُكرِ قطرَة من بحَار نعمَائه ..

والله ..

لوْ أنا عرْفنَا الله حَق معْرفته .. وعلمْنا كنهَ عظمَته حَق العِلم .. وأدرَكنَا جَلالة قدْره تمَامَ الإدرَاك ..

وأسْتشعَرنا فرْط حَاجَتنا وفاقتِنا وفقرِنا إلى رحمَاته ..

وتأمَلنَا عظمَ سَطواته .. وشدّة عقابهِ .. وجَلالة جبرُوته ..

لكنَا منهُ أشدَ وجَلا .. وأعظمَ فزعَا وفرَقا ..

ولما أجترءَت كلابُ العلمَنة عَلى ماجْترحَت .. !

ويْحك .. أتدري مالله ..؟!

إن لله غضْبة لوْ وعَـاها  ** مَن بَغى ماغدا يمدُ لسَانا.

يالله ..

مَا أعظمَه.. ما أجَله .. ما أحْلمه ..

يتطاولُ عليْه أدعيَاءٌ سُفهَاءٌ , قادرٌ أن يَسْلبُهم أرواحهُم , ويكبُهم في جهنّم على وجوهِهُم ولا يُبالي ..

لكنَه كريمٌ .. جوادٌ .. حليمٌ .. رحيمٌ ..

يُسبغُ عليْهم أسْدالـَ حلمه .. ويُوالي عليْهم نعمَائه .. ويمدُ لهُم مدا ..

ويَاويحَ متعَالٍ على ربِه ..

إذا وفدَ القيَامة مروعَا , حَافيَا , عَاريا بيْن يدَي ربٍ نالَ من جنَابه !!

وإني لـ أبعثهَا رسَالة مهداةً بلا وُد إلى كلِ ملحِد .. زنديق .. منافقِ .. مكابر ..

عَفكٍ .. لفِك .. مَدشٍ .. فدِش .. شَرسٍ .. شَكِس ..

يسْلكُ سَنَن الضُلال .. ومهيَع الأرذال ..

يتعَالى على الله تبَاركَ وتعالى , بـ كلمَات لوْ لامسَت مسْمعَ أبي جهْل لـ فرَ وأستغفرْ ..

ولوْ سُكبَ مدادُها على جلمُود صَخْر لـ انصهَر واندثرْ ..!!

ولاغرابَة أن يَتقيءَ بنوُ علمان - عَاجلهُم الله بما يسْتحقون - مثلَ هذا ..

فقد قالوا من قبْلُ قولا عظيمَا .. فريا .. شديدا .. شططآ ..

وما يمتري فِي نتن طواياهُم , وسُوءِ خبَايهم , وخزيِ نيَاتهم إلا من يشَاكلهُم ..

ألا تسْتحيُون ..؟!

فعالٌ تأنفها الكلابْ .. وتأباها الحِمير .. وتترفعُ عنْها المخازي ..

يأتون بكُل قبيحَة لمْ تعْهد .. وخسيسَة ماسَبقهُم بها أحَد ..!!

وتلك شنشِنَة نعرفها من سَلفكم ..  وإن تلحِد فقد ألحَد أخوَتها من قبْل !!

ومَايزالون يفتلونَ في الذروَة والغاربْ ..

ظانِين أنهم قادرين عَلى هدْم صرْح أطنابُه في أعمَاقِ الأرْض ..

والرحمنُ يحميه .!

ولن يتم لهـُم مُراد ويتحَقق لهُم مطلب حتى يُخفضَ الفعْل ويُجزَم الإسْم ..

وعَلى رُغم خيَاشيمهم سـَ يظلُ دين الله قائمَا , شامخَا في أفئدة أبناءِ الأمة , راسِخا رسُوخ الرواسِي في قلوبِ أجيالِه ..

وحُلمٌ عدا هذا إن هُو إلا [ حُلم إبليسَ بالجنَة ] ..!

ولعَل من عَاجِل بشراهُم السيئة أن هتك الله أسْدالهُم في الدنيَا قبْل الآخرة , فمَا تفيقُ الأمة من غمَة فضيحَة علمَانية إلا أطلعَها الله على فضيحَة أخرى ..

معَ أنا أشدُ رهبَة في صُدورهم من الله - عياذا بالله - ..

  ألا تراهُم إذا خَافوُا العِقابَ أنكروا , ومخرَقوا , وأوَلوا , وأقسَموا ماقالوا ولقد قالوا

في قحَة وجُرأة تحيُر إبليسْ ..

وأكذبُ مايكونُ عِلمَاني المخازي إذا أقسَم بالله أوحلف .. هُنا ثق أنه كاذبْ !!

{ يحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ
* أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ } .. التوبَة !

ويْحَك أتدري ما الله ..؟!

الله قوِيُ العِقاب .. الله شديدُ المحَال .. ذي الطول ..

الله عظيم .. الله جبَارُ السَمواتِ والأرْض ..

وله سُبحانه سَطوات يُمهل وله يهمِل .. !!

ألا إنهَا تذكرة وإلى الكبيرِ المُتعَال معذرَة ..

فيَاذا الطوْل والإنعَام ** إليْك نشْكُوا محْنة الإسْلام !!

اللهمّ ..
إن ربُوع الأمَة يبَابا مَواتا فأحيِ مَواتهَا ووأثرْ بائرها واسْقهَا بـ مُزنِ رحماتك ..

اللهمّ ..
إنك أمهَلتَ بني علمَانَ وأنظرْتهُم  .. وقدْ آذانا نتنُهم فإنا نشْكُوهُم إليْك ..  فإنا نسْتعديك عليْهم يا الله !


اللهمّ ..
إن انتقامَك قدْ هانَ عليْهمْ فإن لاتهْدهُم فأرحْ عبَادك منهُم أو عَاجلهُم بإنتقامك !!

اللهمّ ..
إن حِلمَك قد غرَهُم فأرفعْ عنهُم أسْداله وأكشفْ عنهُم سرْباله ..!

اللهمّ ..
إنا نسْتغفرُك .. لياذا بكَ منْ غضبَك يا الله !!

وعيَاذا بكَ أنْ يحُل عليْنا عليْنا سَخطك !!

0
أدركوهم قبل أن يحترقوا

من كان يمر بخياله أنه سيأتي يوم يطل علينا فيه من هو من شباب هذا البلد الكريم في صورة شاحبة، قد مرق من الدين؟! ففتاة -تدعي أنها سعودية- تتحدث عن يسوع المخلِّص ابن الله؟! تعالى الله عن ذلك، وآخر وسم نفسه بالقِس! وثالث -في حلته الوطنية- يحاضر عن تكذيب القرآن، وأن الكتاب واجب الاتباع هو الإنجيل!
من كان يصدق أن ابنا لهذه البلدة الطيبة يعلن إلحاده على الملأ، أو "يغرِّد" بالكفر الصريح، أو يطعن في الشرع بوقاحة؟!
لقد رأينا هذا بأعيننا في الأيام القريبة، بل شاهدنا وقرأنا لما يُزعم أنه جمعية مسيحية سعودية! -والله أعلم بالخبايا-. وصدق عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان). أخرجه الخمسة إلا النسائي.
لست مبالغا ولا متشائما، لكن بحكم اطلاعي ومتابعتي أقول: إنه يحدق بشبابنا أهوال عظيمة وفتن عاصفة، وحُق لناقوس الخطر أن تجلجل دقاته؛ فتنبهوا يا أيها العقلاء الغيورون على دينهم ووطنهم وأبنائهم؛ فهذه البلاد بيضة الإسلام، وتربتها محضن مقدساته، وأرضها لا يجتمع فيها دينان، وشبابها تاج مفرق الأمة، وغزوها في عقيدتها أعظم إرهاب.
إن الموضوع أكبر وأوسع من كونه قصة معينة تقبل التكذيب أو التشكيك.
فلو كان رمحا واحدا لاتقيته     ولكنه رمحٌ وثانٍ وثالث
ثمة -يقينا- قضية ردة، وثانية وثالثة وأكثر: مذاعةٌ في الإعلام أو منظورة لدى القضاء، فلا مجال إذن لأن يقال: أكاذيب، ومبالغات، وإثارة.
إن استبعاد سقوط أحد من شبابنا في هذا الوحل القذر ضربٌ من خداع النفس؛ فإلى متى نجتر كلاما مخدِّرا ونعيش وهمًا كاذبا؟ فهل يعتقد المنصفون أن شريحة كبيرة من شبابنا محصَّنةٌ التحصين الكافي أمام سيل المذاهب الكفرية الهدامة؟ عصيّةٌ على غزوها في فكرها وأخلاقها؟
حسنا .. سينبيك عن حقيقة ذاك التحصين: "التغريدات" العوجاء فكرا وأخلاقا، وسينبيك شعار "الإيمو" على عدد ليس بقليل من شبابنا وفتياتنا، وستنبيك ألبستهم وقصاتهم، وستنبيك رعونتهم في الأسواق والشواطئ والشوارع. ستنبيك المساجد عن قلة روادها منهم، والمدارس الثانوية عن المستوى الديني والأخلاقي والثقافي، والشرطة وهيئة الأمر بالمعروف عن وضع مأساوي.
إنها قرائن كثيرة تشير إلى سهولة اختراقهم وتحويل مسارهم!
نعم .. هناك خير كثير ولله الحمد، وهناك -أيضا- كثيرٌ يُوجع القلب ويضاعف الأسى، والله المستعان.
إن ظهور هذه القضية على السطح -حتى لا تكاد تخفى على أحد- يستلزم الشجاعة الكافية لمناقشتها بحزم وجدية، وليس الهروب والتغافل.
لقد ظن كثيرون -لا سيما خلال العشرين سنة الماضية- أن شبابنا محصنون فلا يمكن اختراقهم، ولقد وثقوا أنه لن تنحرف بهم الجادة لا إلى غلو ولا إلى انحلال.
وفي هدوء انجرف كثير منهم إلى أتون الفتنة بلا مبالاة.
لقد ازدان أمامهم فضاءُ الفضائيات، وجذبتهم شِباك الشبكة، ولهَونا عنهم.
وتوزعت -دون قيود- الألوف المؤلفة منهم في أقطار الأرض؛ وشُغلنا عن واجب ملاحظتهم واحتضانهم.
لقد توهمنا أنهم لن يدخلوا في دائرة اهتمام جماعات التنصير، ولن يكونوا في مرمى سهام التشكيك والإلحاد! والله يقول: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).
ولقد كنا مخطئين في كل ذلك .. وها هي الصدمات تتوالى!
إننا اليوم نجني ثمار أخطائنا، ويجب -اليوم- أن نصحح تلك الأخطاء.
لقد آن الأوان أن يقف المجتمع وقفة جادة مع هذا الخطب الجلل؛ فلننشغل إلا عنه، ولنتهرب إلا منه، ولنختلف إلا عليه.
إنه من غير المقبول أن يُقلل من شأن هذا الموضوع؛ فإن ارتداد أشخاص ينتمون لبلاد التوحيد (التي تقول المادة الثالثة والعشرون من نظامها الأساسي: تحمي الدولة عقيدة الإسلام، وتطبق شريعته، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم بواجب الدعوة إلى الله) هو حقا كارثةٌ دينية ووطنية كبرى؛ إن ذلك يعني وجود خلل كبير، وأن الشباب يتهددهم خطر محدق.
وإذا كان البعض يرى أن هؤلاء الناكصين عددٌ قليل، ولن يضروا الإسلام شيئا؛ فأقول: لو كفر الناس جميعا فلن يضروا الإسلام شيئا، وشؤم الكفر على أهله، (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ، وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا، وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا)، (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا)، ومع ذلك فيجب أن نعلم أن إصابة شخص بجرثومة ضارة تعني أن المناخ مناسب لأن يصاب غيره، كما أن الحريق الكبير يبدأ بشرارة، والتفاحة الفاسدة تفسد صندوقا كاملا؛ وأي فساد أعظم من الردة عن الدين الحق؟!
على أن المتابع الواعي لأوضاع الشباب -في الداخل والخارج- ليجزم أن الوضع أسوأ مما يظنه السطحيون.
ومهما يكن .. نعم؛ إن ما سمعنا عنه قريبا من أخبار ارتداد بعض الشباب والفتيات إما إلى إلحاد وإما إلى نصرانية - حالاتٌ فردية شاذة؛ لكن لا يقول الشرع ولا العقل: لا معالجة لهذه الداهية حتى تصبح "ظاهرة" منتشرة، وحتى يخرج الناس من دين الله أفواجا!
وإذا كانت إصابة مريض واحد بوباء قاتل مُعدٍ تستنفر الجهات والجهود؛ فكيف بالوباء المميت للإيمان، الهادم للأديان!
ليس من المنطق السليم أن يكون النقاش دائرا على عدد من أصيب؛ وإنما على "فداحة المصيبة"، و"مواضع التقصير"، و"مكامن الخطر".
وهذا -كما يدرك الصادقون- بعض حق ديننا ووطننا وأبنائنا علينا.
إن الإسلام سبب وجودنا، وهدف بقائنا، وأكبر قضية في حياتنا؛ وإذا لم يعنِ الطعن فيه والتخلي عنه لنا شيئا .. فما قيمة حياتنا؟!
وإذا كنا جادين في "الوقاية" و"العلاج" فينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أنه لو ذاق هذا أو تلك طعم الإيمان، واستشعرا حلاوته لم يكونا ليرتدا عنه بسبب شبهة تافهة، أو علاقة محرمة، أو نزوة شيطانية، أو حتى حلم منام!
لو علما -حقا- جمال الإسلام وحسنه ورُقيّه لم يستبدلا به إلحادا غبيا، أو دينا منسوخا محرّفا متناقضا.
كالعيس في البيداء يقتلها الظما      والماء فوق ظهورها محمولُ!
لذا .. فيجب أن يُعتنى ببيان "محاسن الإسلام" للناشئة والشباب، وأن يُركز على طرح هذا الموضوع دوما، بأساليب متنوعة.
يجب الحرص على أن يتيقنوا أن الإسلام هو العقيدة التي تسكن لها النفس، والعبودية التي تسمو بها الروح، والشريعة التي تُعنى بالبدن وتزكيه؛ ويكفي أن قدم المسلم تُغسل في اليوم أكثر مما يُغسل وجهُ غيره! وفي أي دين سواه يكون تنظيف الفم وتخليل الأسنان عبادة؟!
لا بد أن يعوا أن شريعة الإسلام جامعةُ الأخلاق السامية والآداب الرائعة؛ حتى إنها لم تُغفل مراعاة مشاعر الحيوان! فأي شريعة غيرها منعت أن تُحَدَّ السكينُ أمام الشاة؟!
ينبغي أن يدركوا أنه الدين الوحيد الذي تَوافق فيه المعقول والمنقول، وانتظم جميع مناحي الحياة بشمولية بديعة ودقة تامة؛ من: تنظيم علاقات الدول، وإلى: كيف يلبس المرء حذاءه!
ومع ذلك فهو الدين السهل الميسور، لا في اعتناقه ولا في اعتقاده ولا في تطبيقه.
وبذا سيعتز الشباب بدينهم، وسيستعلون بإسلامهم، وستلهب الحماسة له قلوبهم.
يضاف إلى ما سبق: ينبغي التركيز على محاور مهمة، عاصمة -بتوفيق الله- من الانحراف، ومن الضروري أن تقدم للشباب بالأسلوب الذي يفهمون، والمنطق الذي يناسبهم، مع الجمع بين سهولة الطرح وأصالة المضمون، وهذه المحاور هي:
-      التوجيه إلى مطالعة الشمائل النبوية والسيرة العطرة.
-      والسعي في تحقيق التوحيد، وتعميق الإيمان بالغيب في نفوسهم.
-      وتوضيح مفهوم الولاء والبراء في ضوء الأدلة الشرعية.
-      وغرس المعتقد الصحيح في باب القدر والحكمة والتعليل في أفعال الله سبحانه؛ إذ هذا أوسع الأبواب التي يلج من خلالها شياطين الإنس للتلبيس على الشباب.
-      وبيان المنهج الصحيح في التعامل مع الشبهات؛ بالنأي عنها، أو الاجتهاد في كشفها.
-      والتأكيد على تعظيم نصوص الكتاب والسنة والتسليم لها وتقديمها على ما سواها.
-      وإزالة توهم التعارض بين العقل والشرع، مع توضيح مكانة العقل ووظيفته اللائقة به.
-      وإرشادهم وملاحظتهم عند إبحارهم في الشبكة "الإنترنت".
-      وتوفير المرجعية الدينية المؤهلة بين الشباب المبتعث في كل الدول التي حلّوا فيها؛ لتكون الصخرة التي تتكسر عندها الشبهات والنـزغات.
-     وأخيرا الحذر والتحذير من قاعدة الانحراف العريضة، المسهلة لغسيل العقول؛ وهي التي يصيح بها بعضهم: (دعوا الشباب وشأنهم! فليقرأوا ما يشاءون، وليستقوا من أي مشرب! فإلى متى هذه الوصاية والتحجير على العقول!) وهذا كلام جاهل، أو صاحب غرض فاسد.
فقاعدة الشريعة المقررة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبصير الجهال، والأخذ على أيدي السفهاء، وسد الذرائع إلى الشرور، ودرء المفاسد. وهذا قمة العقل، وغاية المحبة، وكمال الرأفة.
وكل العقلاء لا يختلفون في استحسان عدم تسهيل امتلاك الشباب للأسلحة وحرية استعمالهم لها، والعلة هنا وهناك واحدة: حفظ ما هو ضروري: البدن، والدين، والدين أولى.
وإذا كان الشرع والعقل يحتّمان محاربة كتب وأطروحات الفئة الضالة والحيلولة بينها وبين الشباب؛ فدعاة الكفر أضل فئة.
هذه محاور عشرة كاملة، والله تعالى سائلٌ كلا عما استرعى.
ختاما أقول: إن الأمانة الملقاة على عاتق الجميع -رعاة ورعية- عظيمة؛ لا سيما مربع الإصلاح بأضلاعه الأربعة، وهي: محاضن التعليم بما تتضمنه من شِقي: المناهج والتدريس، ووسائل الإعلام مرئية ومسموعة ومقروءة، والقائمون على الدعوة والتوجيه، وأولياء أمور الشباب.
فتنبهوا يا هؤلاء قبل أن يزيد الاحتراق.
وصلى الله وسلم على سيد ولد آدم، وعلى آله وصحبه.

0
جهاد الطلب و(سيادة الأمة)!

مما يملأ القلب كمداً أن تصبح شريعة الجهاد لإعلاء كلمة الله غريبة بين المسلمين بسبب ضغط الثقافة الغربية المهيمنة، غريبة حتى بين أهل المكان الذي أنزل الله فيه على نبيه : [قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] {التوبة:29}  
ومما يحزن أن ترى أحفاد الصحابة الفاتحين يغفلون عن حِكم الجهاد العظيمة ، بل ربما صادفت منهم من ينفي جهاد الطلب لأنه يخالف الحرية!
نحن حينما نعتقد اعتقاداً جازماً أن الله أمرنا بتبليغ هذا الدين وإلزام الناس به فنحن نعتقد أن شريعة الله هي كمال العدل يقيناً وقطعاً، وأن الله أمرنا بالعدل ونهى عن الظلم، فكل من لم يقبل أن تسود شريعة الله فهو ظالم يستحق العقوبة: [وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] {المائدة:50} [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {المائدة:45}  
كيف يكون الجهاد لإعلاء كلمة الله في البلدان كلها ظلماً والأرض كلها لله والخلق خلق الله وشريعة الله أكمل الشرائع وأعدلها؟! كيف يصبح تطبيق شريعة العدل الكامل في الظالمين الرافضين للعدل ظلماً لهم؟!
جاء كتاب (سيادة الأمة) مقرراً في آخر مسائله أن الجهاد في الإسلام مبرره الدفاع فقط، ولا شك أن جهاد الطلب يهدم فكرة الكتاب كلها.
نقل المؤلف كلاماً مشتبهاً لابن تيمية وابن القيم على غير وجهه تسبب في إفهام بعض القراء نسبة القول بمنع جهاد الطلب لهما رحمهما الله، وهو كلام مغلوط سأبين وجه خطئه في هذا المقال بإذن الله.
قبل أن أبين ذلك أود أن أنقل بعض النصوص عن الفقهاء من المذاهب الأربعة يتبين منها أن جهاد الطلب أمرٌ مستقرٌ في المذاهب الأربعة، وأن أي محاولة لإلغاء جهاد الطلب من التراث الفقهي ستكون محاولة فاشلة تفضحها دواوين المذاهب الأصيلة .
قال المرغيناني الحنفي صاحب كتاب الهداية:
" وقتال الكفار واجب وإن لم يبدؤوا ؛ للعمومات" . الهداية (2/809)
وقال :
" ولا يجوز أن يقاتل من لم تبلغه الدعوة للإسلام إلا أن يدعوه لقوله عليه الصلاة والسلام في وصية أمراء الأجناد ((فادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله)) ولأنهم بالدعوة يعلمون أنّا نقاتلهم على الدين لا على سلب الأموال والذراري فلعلهم يجيبون فنكفى مؤنة القتال".    الهداية (2/812)
وقال ابن رشد المالكي في بداية المجتهد :
" فأما الذين يُحارَبون فاتفقوا على أنهم جميع المشركين لقوله تعالى : ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله )) ، إلا ما روي عن مالك أنه قال : لا يجوز ابتداء الحبشة بالحرب ولا الترك ، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : ذروا الحبشة ما وذرتكم ..." (1/384)

ولا خلاف بيننا وبين أصحاب سيادة الأمة أن الحبشة أو الترك لو بدؤونا فإنّا ندفعهم، فهذا النقل واضح جداً في محل النزاع.
وقال الإمام الشافعي في الأم :
" دل كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على أن فرض الجهاد إنما هو على أن يقوم به من فيه كفاية للقيام به حتى يجتمع أمران:
أحدهما: أن يكون بإزاء العدو المخوف على المسلمين من يمنعه. [ وهو ما نسميه جهاد الدفع ] والآخر: أن يجاهد من المسلمين من في جهاده كفاية حتى يسلم أهل الأوثان أو يُعطي أهل الكتاب الجزية" [ وهو ما نسميه جهاد الطلب ]    (5/ 383)   الكلام بين الأقواس من إدراجي للتوضيح وليس من كلام الشافعي.
وقال :
" فإن كانت بالمسلمين قوة لم أُحب أن يأتي عليه عام إلا وله جيش أو غارة في بلاد المشركين الذين يلون المسلمين من كل ناحية عامة، وإن كان ذلك يمكنه في السنة مراراً بلا تغرير بالمسلمين أحببت ألا يدع ذلك كلما أمكنه. وأقل ما يجب عليه ألا يأتي عليه عام إلا وله فيه غزو حتى لا يكون الجهاد معطلاً في عام إلا من عذر".      (5/ 388)
وقال أبو المعالي الجويني الشافعي في نهاية المطلب:
" إذا كان الكفار قارّين في ديارهم غير متعلقين بأطراف ديار الإسلام فمقاتلتهم فرض على الكفاية". (17/397)
وقال ابن النجار الحنبلي في منتهى الإرادات :
" وأقل ما يُفعل -أي الجهاد- مع قدرة كل عام مرة إلا أن تدعو حاجة إلى تأخيره". (1/219)
ونقولاتهم في هذا أكثر من أن تحصر في مقال قصير .
يتبقى اعتراض مهم دائماً ما يرفعه أصحاب حرية الكفر وهو : أن هذا من الإكراه في الدين ويستدلون بآية [أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] {يونس:99}  وبآية [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] {البقرة:256}  وغيرها من الآيات.
وللإجابة عن هذا الاعتراض أقول :
أولاً : هناك أكثر من خمسة أقوال في معنى (لا إكراه في الدين) كلها لا تدل على معنى ما يطرحه هؤلاء، والعجيب أن من هؤلاء من يعيب على بعض الخطابات الشرعية التربية على القول الواحد ثم هم يمارسونه في أبشع صوره ، بل وبفهم مغلوط حتى لهذا القول الواحد !

ثانياً : أن الآيات كلها تتناول الإكراه في الدين ولا تتناول الإلزام بالشرع فزال التعارض بينها وبين الآيات الدالة على جهاد الطلب التي مقصوها دعوة الناس والإلزام بالشرع لا إجبارهم على الإسلام كقوله تعالى : [قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] {التوبة:29}  وقوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ] {التوبة:123}  فإخضاع الكفار لدولة الإسلام وإلزامهم بحكمنا لا علاقة له بإجبارهم على الدين فنحن لا نجبرهم على الدخول في دين الإسلام، كل هذا طبعاً على التسليم بالمعنى الذي ذكروه وأنه غير منسوخ، وإلا ففي معنى آية (لا إكراه في الدين) أقوال أخرى تراجع في كتب التفاسير .
أما وجه المغالطة في ما ذُكر في ( سيادة الأمة )، فهو أن صاحب الكتاب خلط بين مسألتين مختلفتين: 
1- حكم جهاد الطلب وجهاد الدفع.
2- هل علة القتل الكفر أم القتال؟
أورد صاحب الكتاب نصوصاً لابن تيمية وابن القيم في المسألة الثانية، في سياق يوهم أنهما يتحدثان في المسألة الأولى ويلغيان جهاد الطلب ، ويقولان بأن الجهاد إنما هو للدفع فقط، وهذا غلط ظاهر.
فهما كبقية الفقهاء يقولان بجهاد الطلب ، وأما تلك النقول فإنها في مسألة علة القتل ، ومعنى المسألة باختصار : في جهاد الطلب، من نقتل ؟ هل نقتل كل كافر؟ أم نقتل من كان من أهل القتال أو خرج لقتالنا؟
قول الجمهور: أنه لا يقتل إلا من كان من أهل القتال ومن يعاندنا إذا أردنا إظهار دين الله، أي من يرفض التخيير بين الإسلام أو الجزية ويختار القتال.
قول الشافعية: أن القتل لكل من كان كافراً، واستثنوا النساء والصبيان.
هذه مسألة مختلفة، يرى ابن تيمية وابن القيم فيها رأي الجمهور ، أما قولهما في جهاد الطلب فتبينه النقول التالية:
يقول ابن تيمية:
" كل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له فإنه يجب قتاله" .   السياسة الشرعية 153
بل يقول في نص يلغي فكرة سيادة الأمة بالمعنى الذي يطرحه صاحب الكتاب بشكل واضح : 
" كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت بالشهادتين، فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا..... وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة". مجموع الفتاوى (28/510)

ومما أحب نقله - استطراداً - مما يزيد وضوح المجافاة بين رأي ابن تيمية وبين ما يطرحه صاحب (سيادة الأمة) قول ابن تيمية :
" ومن لم يندفع فساده إلا بالقتل قتل، مثل المفرق لجماعة المسلمين، والداعي إلى البدع في الدين". مجموع الفتاوى (28 / 108-109) وأصحاب الديمقراطية يمنعون أي عقوبة على مجرد الرأي المبتدع أو الدعوة إليه فضلاً عن القتل !
وفي نفس الكتاب الذي نقل منه صاحب (سيادة الأمة) (كتاب قاعدة في قتال الكفار ومهادنتهم) ثلاث كلمات لابن تيمية لا أدري أين موقعها من فكرته :
- يجوز قتال اليهود والمجوس بالنص والإجماع حتى يعطوا الجزية . 148-149
- الأمَة المملوكة تُقتل للقصاص والردة . 189
- دار الإسلام لا يُترك فيها إلا مسلم أو كافر بجزية وصغار . 208
أما ابن القيم فيذكر بوضوح مراحل تشريع الجهاد فيقول :
" ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقال : ( [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] {البقرة:190}  ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، وكان محرماً ثم مأذوناً به ، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال ، ثم مأموراً به لجميع المشركين إما فرض عين على أحد القولين، أو فرض كفاية على المشهور" .    زاد المعاد (3/64)
بل قال في الفروسية :
" جهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً وعقلاً، وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين" . اهـ
هذا هو ابن القيم الذي أفهَمنا بعضهم رأيه خطأً، لا يقول بمشروعية جهاد الطلب فقط، بل يعتبر القائم به من سادات المؤمنين !
إن الحديث عن شروط جهاد الطلب، وعن ضرورة مراعاة المصالح العظمى للإسلام، أو الحديث عن بعض الأخطاء في تطبيق بعض المسلمين للجهاد وانتقادها ، إن هذا كله شيء، ومحاولة إلغاء شريعة الجهاد شيء آخر، فالخطأ لا يواجه بالخطأ من الجهة الأخرى، وإذا قوبل الانحراف بالانحراف ضاع الحق وغابت معالمه.
بكل تأكيد أننا حين ننقل نصوص الأئمة في جهاد الطلب فهذا يعني بالضرورة أن فكرة (سيادة الأمة) بالمعنى الذي يطرحه صاحب الكتاب سيصبح أمراً مرفوضاً عند أئمة الإسلام، فأين خيار الأمة الكافرة التي لا تريد شريعة الله؟ وهذا ما ذكره صاحب الكتاب نفسه حينما قال في كتابه : ( الجهاد القتالي بهذا المفهوم يعارض مبدأ سيادة الأمة إذا كان الهدف والمقصد منه إلزام شعوب العالم بالشريعة الإسلامية ) 189 
تعليق أخير : في جهاد الطلب كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث قواده لفتح البلدان ويأمرهم بتخيير الكفار بين الإسلام أو الجزية والرضوخ لدولة الإسلام، أو الحرب، ثم جاءنا أصحاب الديمقراطية يخيّرون الأمة المسلمة بين الإسلام أو الكفر !
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .

0
معالم في العفة

لقد باتت الفاحشة المهدد الأكبر لإيمان الأمة بانتزاعه, وللشباب خاصة بسلبهم العفة التي في قلوبهم. بل أصبح الأعداء يضربون على هذا الوتر من خلال أدوات لا تكاد تخفى تبعاتها حتى على المتضررين منها.(انظر صراع مع الشهوات, محمد المنجد,ص19 -22).
وآتي هنا للوقوف مع مطلع سورة عظيمة من كتاب الله فُرضت على الأمة بصريح الآية, قال تعالى:" سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)"سورة النور.قال سيد قطب-رحمه الله- عن مطلع السورة:"ففرضية الآداب والأخلاق فيها كفرضية الحدود والعقاب. هذه الأداب والأخلاق المركوزة في الفطرة, والتي ينساها الناس تحت تأثير المغريات والانحرافات. فتذكرهم بها تلك الآيات البينات وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح البين".
وبالتالي قد وجدت كغيري معالم العفة وموانع الفاحشة في سورة النور, يقول الشيخ بكر أبوزيد-رحمه الله-في حراسة الفضيلة:( وتأمَّل هذا السر العظيم من أسرار التنزيل، وإعجاز القرآن الكريم، ذلك أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في فاتحة سورة النور شناعة جريمة الزنى، وتحريمه تحريماً غائباً، ذكر سبحانه من فاتحتها إلى تمام ثلاث وثلاثين آية أربع عشرة وسيلة وقائية، تحجب هذه الفاحشة، وتقاوم وقوعها في مجتمع الطهر والعفاف جماعة المسلمين، وهذه الوسائل الواقية: فعلية، وقولية، وإرادية), وأنا هنا أتدبر ولا أفسر, وقد حاولت رصد هذه المعالم والمعاني من نور الوحي الكريم علّ الله أن ينفع بها كاتبها وإخوته من المؤمنين والمؤمنات, وقد أسميتها معالم العفة, ومصطلح (معالم) كما ذكر جبران مسعود في معجم الرائد يعني: مايستدل به على الطريق من أثر أو نحوه, ومعالم العفة أي: الدلالات التي تدل على طريق العفة, فأبدأ مستعيناً بالله بذكر هذه المعالم:
1.        إقامة الحدود, يقول الرب -تعالى-:(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ), وأشير لبعض المعالم هنا:
أ‌-   لا رأفة في حال تطبيق الحد ردعاً للغير, (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ).
ب‌- أن يكون ذلك بحضور الناس, (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)؛ ليشهدوا ذلك ولما له من الأثر المجتمعي في قمع الرذيلة, وعدم السير خلفها.
ت‌- قد استمرء كثير الفاحشة والابتزاز ربما لندرة أو انعدام تطبيق شرح الله في هذه الجريمة, وإني أدعو إلى أن تؤخذ الأمور من المحاكم الشرعية بحزم تجاه هذه الكبيرة, وتطبيق شرع الله, وهو رحمة للفاعل, ورحمة للمجتمع.

2.        الإقصاء المجتمعي للزناة حتى من حيث الدلالة اللفظية, قال الله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)). فمن هذا الإقصاء يكرم العفيف والعفيفة, ويهان الزاني والزانية وقد قرن معهما المشرك والمشركة.ومن الإقصاء الوارد أيضا قول الله تعالى في سورة النور:" الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)".ولو تقرر في المجتمعات هبوط مكانة الزناة وأرباب الفواحش كماهو الحال في غالب مجتمعات المسلمين -والحمد لله- لعلا صوت العفة, وخشي مريدو الفاحشة من تفشي خبرهم وحالهم, والحال في الغرب شاهد على تفشي الفواحش لتطبع المجتمع عليها حتى يندر من تحتفظ ببكارتها دون سن البلوغ-نسأل الله العافية-.

3.        حرمة رمي المؤمنات وقذفهن والتعدي واللوك في الأعراض, قال الحق جلّ وعلا:"وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)", وذلك لما فيه من نشر الفاحشة والتساهل في توسيعها؛ وإن كثرة الحديث في بيت من المسلمين قد توجه نبال التهم وأغراض المفسدين له, وهنا معالم:
أ‌- تحديد حد القذف لمن لم يأت بأربعة شهداء ثمانين جلده, وربما نرى أن جلب الأربعة شهود صعب المنال, ولكن الهدف منه الحد من التمادي في أعراض المسلمين, والستر عليهم.
ب‌-      من قذف دون الشهود الأربعة فقد حُكم عليه بـ: عدم قبوله شهادته وعده من الفاسقين. وقد كان هذا الجزاء من جنس عملهم, مقابل التساهل في قذف الأعراض.
ت‌-      باب التوبة مفتوح لمن تاب وأصلح, قال الله تعالى:"إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)", قال الشيخ السعدي-رحمه الله-: (يكذب نفسه ولو تيقن وقوعه, حيث لم يأت بأربعة شهداء,فإذا تاب القاذف وأصلح عمله بدل إساءته إحساناً, زال عنه الفسق, وكذلك تقبل شهادته على الصحيح).
ث‌-      رمي الزوجات شأنه عظيم, فهي أم الأبناء وربة المنزل وسيدته, ولذا عظم فيها الحكم, فمن لم يأت بالشهداء الأربعة فيكون اللعان الذي يقضي فيه القرآن نصاً, وذلك لما قد يحصل من تساهل بعض الأزواج من التهكم بعفة زوجته, أو النيل منها, وأيضاً جُعل للزوج حق في الشهادات الخمس لما قد يُعلم بالعرف صعوبة تهمة الزوج لامرأته وقذفها إلا أن يكون على يقين, فكان هذا الحكم عدل بين الزوجين.قال تعالى:" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)". وقد ذكر الشيخ أبو بكر الجزائري-حفظه الله-  في أيسر التفاسير عن سبب نزول الآيات:(نزلت هذه الآيات في عويمر العجلاني مع زوجته خوله. فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وقال: يارسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فيقتلونه أم كيف يفعل؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :"قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك" فأت بها فأتى بها وتلاعنا...).قال ابن حجر-رحمه الله- معلقاً على الحديث:( واللعان ينقسم إلى واجب ومكروه وحرام ، فالأول أن يراها تزني أو أقرت بالزنا فصدقها، وذلك في طهر لم يجامعها فيه ثم اعتزلها مدة العدة فأتت بولد لزمه قذفها لنفي الولد لئلا يلحقه فيترتب عليه المفاسد. الثاني أن يرى أجنبيا يدخل عليها بحيث يغلب على ظنه أنه زنى بها فيجوز له أن يلاعن ، لكن لو ترك لكان أولى للستر لأنه يمكنه فراقها بالطلاق, الثالث ما عدا ذلك), ولذا لاحظ تقديم مصلحة الستر في حال غلبة الظن, والحرمة لمادون ذلك من الوهم والشك..

4.        التثبت في نقل الأخبار والرواية, وتقديم الظن الحسن على سيئه دائماً, ومن قصة حادثة الإفك بعض المعالم:
أ‌-     ليس كل ما يُصاب به المؤمن أو يُتهم به شر له, فربما كان خيراً ونفعاً, فلولا اتهام عائشة لم زكاها القرآن وشهد بعفتها رب الأرباب-تبارك وتعالى-"إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ".
ب‌-   إحسان الظن بالمؤمن أمر رباني, ولا يجوز الجرأة في عرضه حتى يثبت شرعاً, بل يحسن الظن به, وتُذكر مناقبه قبل الاسترسال في سماع التهمه؛ لأن في عدم إدارك هذا المعنى قد يستشري في بعض الضعفاء انتقاص الأخيار ونقل مايزعم عنهم من سقطات-إن صدقت, وإن التساهل في رمي شرفاء القوم وعليتهم بتهمة الفاحشة هو إساءة للمجتمع ونسف لمعلم من معالم العفة, يقول الله تعالى:" لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)".
ت‌-   إمرار ما يسمع المرء من الأخبار على العقل, وإبطال التكهنات وسرعة الحديث بما يسمع المرء فهذا رشد ودراية, روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال:قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع"؛ومفهوم المخالفة هنا: كفى بالمرء صدقاً ألا يحدث بكل ما سمع, وهي خصلة للمؤمنين العاقلين. وقد وصف الله بمن يخالف هذا المعلم بأنه يتلقى الخبر بلسانه كناية عن تعطيله لعقله, وهو نقص في العقل والإيمان, ومع ذلك فهو على سهولته في نظر صاحبه فإن شانه عند الله عظيم, وعذابه عسير, قال الله-تعالى-:" إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)".
ث‌-   لابد من وعظ من يرمي أعراض المسلمين والناقلين لها, يقول الله:"يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)", ومن أعظم ما يزجر به متتبع العثرات هو الوعظ والزجر بالقرآن والتخويف من الله وعقوبته, ففي الدنيا إقامة الحد, ولا يقام الحد إلا على كبيرة, وفي الآخرة عذاب وقصاص. ولذا يقول الحق -سبحانه- في السورة نفسها :"إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) ".

5.        الاحتساب على أهل الفواحش, وكشف أجندتهم, قال الله -تعالى-:" إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) ". هنا وقفة مع من يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا, وهم كثر في عصر مثل عصرنا, حيث الإعلام الفاسد, والأقلام الجائرة, والعقول المنحلة التي صهرت فئام من عقول الأمة في مستنقعها, وميعت كثيراً من مبادئ المسلمين, وغيرت شيئاً من التنظيمات المحافظة على الأعراض, ونددت بجهود المحتسبين القائمين على صيانة المجتمع من الفاحشة, فهؤلاء هم خطر جسيم على العفة ومعالمها, وقد سادهم المنافقون منذ عصر الرسول-عليه الصلاة والسلام-؛ فجهادهم وكشف مخططاتهم, وإزالة الغبش عن الناس تجاه مشاريعهم, هو مبدأ لابد أن يعلو في روح كل مؤمن تأخذه الغيرة على محارم المسلمين وأعراضهم, ولا يموت مع الإنسان إلا بانفلات روحه.

6.        التفطن لمداخل الشيطان وطرقه ومزالقه, فكثيراً من مهاوي الردى لا تُردي صاحبها من أول سقطة, بل دركات حتى الهاوية-والعياذ بالله-, والإنسان بطبيعته تنازعه شهوته وفطرته, وقد يسهو عن إصمات قلبه في التفكر بالملذات, وربما سابقه النظر لمشهد مثير, أو يتساهل في أحكام الاختلاط والتسوق فيقع في حبائل الشهوة والرذيلة, ولذا فيحذّر الله عباده المؤمنين وقد ناداهم بالإيمان دراية بحبهم للخير, وإدراكاً لاحتمالية سير الأكثرية خلف خطوات الشيطان نظراً لتلبسها على أكثرهم ونزعة الفرد لبشريته غالباً, فيقول الرب-تبارك وتعالى-:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)",
يقول شوقي:
نظرة فابتسامة فسلام     فكلام فموعد فلقاء
ومن الخطوات والمصائد سماع الغناء, واللهو ويدخل فيه والعلم عند الله ما نتج من أناشيد نهجت النهج الوجداني, وابتعدت عن الشعر الحماسي, وصارت تمنتج بـ(الكليبات) وغيرها, واستخدمت بعض المردان نقلة لذلك, وأدخلت الهرمونات الصوتية والتي كثيراً ما تكون من خلال أجهزة الغناء ذاتها, فافتتن الشباب والشابات, وأعرضوا وضلو وأضلوا, قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: (ومن مكائد عدو الله ومصائده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة، ليصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفةً على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن القرآن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسنه لها مكراً وغروراً، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه، فقبلت وحيه، واتخذت لأجله القرآن مهجوراً..).
وبالتالي فخطوات الشيطان ومداخله لا تحصى, فقد تكن البيئة مدخل, الصحبة, المكان, أو الزمان فليحذر من الانجراف خلفها, والغرور بما يملك من علم أو تقى أن يكون ضحية لمزلق شيطاني.
  يقول الشيخ أبو بكر الجزائري-حفظه الله-معلقاً في تفسيره على قوله تعالى:" وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً": (وهذه منة أخرى وهي أنه لولا فضل الله على المؤمنين ورحمته بحفظهم ودفع الشيطان عنهم ما كان ليطهر منهم أحد, وذلك لضعفهم واستعدادهم الفطري للاستجابة لعدوهم).

7.        الاستئذان عند دخول البيوت, وهذا أمره في الإسلام عظيم, وقد جاء صراحة في هذه السورة في أكثر من موضع, ليبين الله الاستئذان, وأحكامه, قال الله-جل في علاه-:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)", وهنا بعض المعالم:
أ‌-     في الحديث المتفق عليه قال الرسول- عليه الصلاة والسلام-:"إنما جعل الاستئذان من أجل البصر", وهذا شأنه حتى مع أهل الفرد وأسرته فربما دخل بيته ولم تتهيأ له زوجه, أو حتى محارمه, ففي الأدب المفرد روى البخاري عن عطاء قال: سألت ابن عباس فقلت: أستأذن على أختي؟ فقال: نعم, فأعدت فقلت: أختان في حجري, وأنا أمونهما, وأنفق عليهما, أستأذن عليهما؟ فقال:"نعم, أتحب أن تراهما عريانتين؟!).
ب‌-   كان النبي-صلى الله عليه وسلم-كما روى عبد الله بن بسر-رضي الله عنه- لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه, وفي هذا دلالة على احترام البيوت, وحتى يكن أبعد من مظنة رؤية عورات البيت.
ت‌-   قد حدد الله كيفية استئذان الطوافين على البيوت وهم ما ملكت الأيمان والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم أن يستأذنوا في ثلاث أوقات, قال الله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)".وهنا لطيفة في الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم فقد يستصغر البعض أعمارهم, ويوهم نفسه بأنهم لا يدركون, وهذا خطأ تربوي فادح, فلديهم البصر الذي يحفظ الصورة في المخيلة, والحس الذي يربط بين الأشياء, يقول د.حامد زهران في كتابه علم نفس النمو عن مرحلة الطفولة من 3-6 سنوات: (يطلق البعض على هذه المرحلة "مرحلة السؤال", فما أكثر أسئلة الطفل في هذه المرحلة, ويكون الطفل في هذه المرحلة علامة استفهام حية بالنسبة لكل شي, فهو يريد أن يعرف الأشياء التي تثير انتباهه). وبالتالي فهو توجيه رباني بتعميق حس الاسئتذان, وعدم ترك الحبل على الغارب للصغير أياً كان, وتربيته على الاستئذان وزرع معالم العفة فيه, حتى إذا بلغ الحلم فينطبق عليه ما ينطبق على الكبار, فلا يتردد في الامتثال والانقياد, يقول الحق-تبارك وتعالى-:" وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)".

8.        هنا أعظم معلم من معالم العفة, وهو برهان الإيمان, وعلامة اليقين بوعد الله, إنه غض البصر. قال الله تعالى:" قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...".قد ترعرع أناس بين ظهراني الكفر, وعُرض آخرون على العاهرات, وافتتن عدد بالمومسات فكانت وقايتهم بعد حفظ الله في الاستجابة لنداء الله بغض البصر وحفظ الفرج, وهنا لفتة قرآنية في قوله تعالى:( يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) فهنا كما ذكر الشيخ السعدي-رحمه الله-:(أن الله أتى بأداة"من"الدالة على التبعيض؛ لأنه يجوز النظر في بعض الأحوال لحاجة, كنظر الشاهد والعامل والخاطب, ونحو ذلك. ثم ذكرهم بعلمه بأعمالهم؛ ليجتهدوا في حفظ أنفسهم من المحرمات).
كم أسلمَ رجل أو امرأة البصر فكانوا صرعى لتلكم النظرة, والقصص تزخر بذكر الجرحى والقتلى من هذا السهم المسموم الذي أخبر عنه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. إن غض البصر طاعة لله, ووقاية من شرور الفاحشة, ونحن في عصر يتحدى هذه العبادة, حيث امتلأت المشاهد المغرية عبر الفضائيات وخدمات الانترنت الحديثة والأجهزة الذكية فكان الناجون يعدون عداً. فما أجمل الإنصياع لأمر الله سبحانه, وسيورث الله في القلب طمأنينة ونوراً, وحبس نظرة خير من عبادة شهوة.

9.        أمر الله -تعالى- المؤمنة بغص البصر وحفظ الفرج والحجاب والتستر وعدم إظهار الزينة ووجوب إخفائها إلا على المحارم وقد حددهم الله سبحانه وتعالى في قوله :" وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)", وفي هذا التوجيه الرباني لفت للجانب الآخر من معالم العفة حيث الرجل والمرأة هما قطبا المعالم, فما أجمل أن تقوم المرأة بدورها في صد باب الفاحشة, وإغلاق طريق الشيطان تجاهها بأي شكل من الأشكال, حتى زينتها مع محارمها لتكن محدودة فلا تظهر غالب جسدها وتتكشف بحجة الزينة, فقد قال الله:" وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا " قال الشيخ السعدي -رحمه الله-معلقاً: (الزينة كالثياب الجميلة والحلي, وجميع البدن كله من الزينة, وما ظهر منها: أي الثياب الظاهرة التي جرت العادة بلبسها إذا لم يكن في ذلك مايدعو إلى الفتنة بها).ومن المصائب التي بُليت بها الأمة هي تلك الألباس الكاسية العارية, التي لاتكاد تجد المرأة المحافظة مايعينها على تسترها, مما تفشى ظهور الألبسة غير المحتشمة, وتطبع غالب النساء على هذه الملبوسات في أماكن تجمعاتهن, وهذا يأخذنا لأولئكم الذي يلوكون بالضوابط الشرعية في كل مهرجان يريدون أن يعروا المرأة من خلال دعاياتهم الزائفة بالضوابط الشرعية, وإن العفيفات تعلمن حقاً ماهية ضوابط الشريعة, ولاتسلمن عقولهن لمريدي الفاحشة والبغاء.

10.      النكاح, فهو من أبرز معالم العفة ودعائمها, حيث أمر الله كل ولي أن يُنكح من في ولايته, قال الله تعالى:" وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)", والصلاح هنا:إما صالحاً في دينه أو صالحاً للزواج كما ذكر ذلك الشيخ السعدي-رحمه الله-, وإن الزواج عبادة وعفة وبناء, وهو سمة للحياة السوية المستقرة فلا أقل أن يجد الرجل أو المرأة ما يعفهما. وهنا بعض المعالم:
أ‌-     الأمر هنا بأن يتزوج المرء, أو أن يُزوج من يعول حتى ولو لم يجدوا مالاً فإن الله قد تكفل بإغنائهم, قال الله:" إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ", وروى الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه, إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض".
ب‌-   من لم يستطع النكاح, وصعب عليه لأي سبب من الأسباب فلا يجوز له أن يترك نفسه فريسة للشهوات والفواحش فقد أمره الله أن يستعفف, قال الله تعالى:" وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)".وأمر الله بالعفة يقتضي تحميل الفرد المسؤولية عن نفسه في عفته, وصيانته لعرضه فلا يتذرع بطرقه أبواب الحرمات بأنه لم يعطَ مايعينه على النكاح, فقد صح عن الحبيب -عليه الصلاة والسلام-في الحديث المتفق عليه: "يا معشر الشباب, من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء".والباءة هنا: القدرة على مؤونة الزواج؛ لأن الخطاب قد وُجه لفئة الشباب, وأُمروا بالصوم تخفيفاً لوطأة الشهوة. يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله-في زاد المعاد29/2: (وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها، أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) (البقرة :185).
ت‌-   الحق كذلك في ولي الفتاة ألا يتركها فريسة للزنا والبغاء من منعها الزواج أو النكاح, وهو هنا موجهٌ في حق الأمَة, فما بالنا بمن يعول المرء من بناته أو أخواته أو من يعول من رحمه, يقول الحق:"وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ" ,وإن تركَها ولم يحرص على تزويجها ونظر في بعض المآلات منها كالخدمة أو المال فيترك تزويجها فلا يجوز بحال من الأحوال, فقد يضطرها للفاحشة ومادونها؛ ولاأجد حرجاً فيمن وجد من يثق من الرجال ليزوجه من يعول من الفتيات, فليس هو أشرف وأكرم من رسول الله-عليه الصلاة والسلام- وصحابته الكرام, وأن يختار لهن الصالح خير من تركهن سنين عديدة, وربما لايأتينهن إلا الحشف من الذكور.

  في نهاية المطاف بعد أن اقتبسنا نوراً من مطلع سورة النور يضيء لنا معالم العفة وموانع الرذيلة, فأقول أن المؤمن والمؤمنة بصلتهما الدائمة مع الله, وبالدعاء المستمر مع الأخذ بالأسباب الفردية , وسعيهم لإقرار الأسباب المجتمعية والسلطوية, لهي كفيلة -بإذن الله- بإنتاج مجتمع نزيه, وأن يسعى كلٌ في مكانه وبحسبه وحاله في تدعيم معالم العفة والدلالة عليها, وقمع كل فكر دخيل, وإخراس كل صوت نشاز يدعو لإطفاء سراج العفة من بيوت المسلمين. اللهم ألهمنا رشدنا واجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
 
تعريب وتطوير محمد محمود
شخبطة © 2011 | عودة الى الاعلى
محمد محمود