0
مشروع النهضة عند جمال الدين الأفغاني



جمال الدين الأفغاني (1838-1897) :
ولد في قرية أسعداباد الأفغانية ويرجح أنه من أصل فارسي تلقى تعليمه في كابول ثم انتقل إلى الهند وحج إلى مكة ثم عاد إلى أفغانستان ليرأس الوزارة في ظل الأمير محمد أعظم ثم عزل فرحل إلى الهند ثم إلى مصر واتصل بأساتذة الأزهر وطلابه وأشهرهم محمد عبده ثم نفي من مصر 1879 فغادر إلى الهند ثم باريس وأسس مع محمد عبده جمعية العروة الوثقى وصحيفة العروة الوثقى ، وفي عام 1886 توجه إلى إيران ليتولى وزارة الحربية ثم غادرها بسبب خلافات سياسية فتجول في روسيا وفرنسا ثم العراق وإنجلترا ثم استدعاه السلطان عبد الحميد عام 1892 إلى الآستانة فأقام فيها حتى وفاته 1897 .
جاء جمال الدين الأفغاني في زمن التناقض أو ما يسميه هو زمن الاستعمار ، لذلك كانت النظرة السياسية هي المنطلق لفكرة الأفغاني عن مشروع التقدم والنهضة .
بدأ الأفغاني أولاً باستعراض أفكار من سبقه عن أسباب التقدم وفندها حيث يقول " ظن قوم في زماننا أن أمراض الأمم تعالج بنشر الجرائد وأنها تكفل إنهاضها وتنبيه الأفكار وتقويم الأخلاق لكن أين من يقرأ ومن يكتب فضلاً عمن يفهم ، وذهب آخرون إلى أن شفاء الأمة من أمراضها القتالة تكون بإنشاء المدارس العمومية دفعة واحدة في كل بقعة من بقاعها وعلى الطراز الجديد المعروف بأوربا لكن ما أبعد ما يظنون وما فعلته الدولة العثمانية في هذا الجانب ما أدى إلا إلى تبعية عمياء وتدهور " ([1]) .
ثم يبدأ الأفغاني بطرح فكرته عن التقدم فيقول " أرسل فكرك إلى نشأة الأمة التي خملت بعد النباهة وضعفت بعد القوة واسترقت بعد السيادة واطلب أساس النهضة الأول حتى تتبين مضارب الخلل وجراثيم العلل فقد يكون ما جمع كلمتها وأنهض همم آحادها ولحم ما بين أفرادها إنما هو دين قويم الأصول محكم القواعد شامل لأنواع الحكم باعث على الألفة ، إن العلاج الناجع إذاً يكون برجوع الأمة إلى قواعد دينها والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته " ([2]) .
إن القاعدة التي يدور عليها منطق جمال الدين هنا تأخذ شكل القانون " متى ضعف ما كان سبباً في الصعود يحصل الهبوط والانحطاط ومتى زال ما كان سبباً في السقوط يحصل الصعود " ([3]) .
في البداية أغرته كثيراً فكرة توحيد الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلامية لما لاحظ من تمام الاتفاق بينها في المبدأ والغاية لكنه ما لبث أن أدرك أن المحاولة ممتنعة إطلاقاً وذلك بسبب ما أُحدِث من اختلافات دينية وطائفية ومذهبية ([4]) .
وبذلك رأى الأفغاني أن سبب الهبوط الأول هو تراجع الدين وانحساره وضعفه بالإضافة إلى ما اعترى بعض عقائده من خلل وتشويه ، أما كيفية مقاومة ذلك فتتلخص في ثلاث عقائد وثلاث خصال :
العقيدة الأولى : التصديق بأن الإنسان ملك أرضي هو أشرف المخلوقات ، وهذا الاعتقاد يلزم صاحبه بأن يترفع عن ملابسة الصفات البهيمية والحيوانية .
العقيدة الثانية : يقين كل ذي دين أن أمته أشرف الأمم وإن كل مخالف له هو على ضلال ، وهذا اليقين يدفع الأمة إلى أن تنهض لمكاثرة الأمم الأخرى ومساماتها في مجدها .
العقيدة الثالثة : الجزم بأن الإنسان إنما ورد هذه الدنيا لاستحصال كمال يهيئه للعروج إلى عالم أوسع ودار لا تنقضي سعادتها ولا تنتهي مدتها وصاحب هذا الاعتقاد مدفوع دوماً إلى الارتقاء من حالة الجهل إلى حالة العلم والتقدم .
أما الخصلة الأولى : خصلة الحياء تدفع إلى حفظ نظام الجمعية البشرية وكف النفوس عن ارتكاب الشنائع أشد من تأثير مئات القوانين وآلاف الشُرَط .
الخصلة الثانية : الأمانة فهي دعامة بقاء الإنسان ومستقر الحكومات وباسط ظلال الأمن والراحة والسلطان والعدالة .
الخصلة الثالثة : الصدق ، فالكاذب الذي يرى البعيد قريباً والقريب بعيداً ويظهر النافع في صورة الضار والضار في صورة النافع هو رسول الجهالة وبعيث الغواية وظهير الشقاء ونصير البلاء ([5]) .
كانت هذه فكرة الأفغاني عن مشروع النهضة والتقدم وكان يعتقد أن ذلك لن يتحقق إلا بالاجتماع والتوحد واتفاق الكلمة .
أما عن أسباب انحطاط وتأخر الأمة فقد فعل الأفغاني كما فعل أيضاً في فكرته عن التقدم ، حيث عرض أولاً لأفكار غيره عن أسباب التأخر وفندها ، فيقول مثلاً " ذهب بعض المغفلين من الإفرنج إلى أن تأخر المسلمين راجع إلى عقيدة القضاء والقدر التي تعد عند المسلمين أصلاً من أصول دينهم ، والحقيقة أن هؤلاء قد أساءوا التمييز بين الاعتقاد بالقضاء والقدر وبين الاعتقاد بمذهب الجبرية ، بل إن الاعتقاد بالقضاء والقدر تتبعه صفة الجراءة والإقدام وخلق الشجاعة " ([6]) .
أما عن فكرة الأفغاني للتأخر فهو يرى أن المؤثر الأول فيها هو الباطنية وأهل التأويل بما ساعدهم مد الزمان على تلويث النفوس بالأخلاق الردية حتى تبدلت الشجاعة بالجبن والصلابة بالخور والجرأة بالخوف والصدق بالكذب ([7]) .
أما عن عوامل التأخر والانحطاط في فكر الأفغاني فنستطيع أن نلخصها في عاملين :
العامل الأول : العامل السياسي : فحروب الصليب وغارات التتر وغيرها كل ذلك أدى إلى فساد كبير في الأمة ، حتى الدولة العثمانية التي كانت لها القوة حين توغلت في أوربا وفي دول البلقان لم تقم بينها وبين هذه الدول خلال أربعة قرون أي رابطة أو جامعة من شأنها أن تحافظ على استمرار وجود الدولة فيها ، بل إن الدولة العثمانية لما توغلت في الدول العربية لم تتبن فكرة السلطان محمد الفاتح من ضرورة تعميم اللسان العربي في الدولة بل إنها فكرت بتتريك العرب وما أسقمها سياسة وأسقمه من رأي !
كذلك من ضمن العامل السياسي : غياب العدل والشورى وعدم تقييد الحكم بالدستور .
كذلك أيضاً : دخول العنصر الأجنبي في أمر تشييد الدولة عند تراخي العصبة .
ومما يدخل في العامل السياسي كذلك : الانغماس في السفه والترف والبذخ والسرف الذي يصرف الهمم عن الأمور وعن أسباب العمران ويجر إلى حالتي الاضمحلال والانقراض .
العامل الثاني : هو العامل الأخلاقي الذي اضمحل تماماً في الأمة فغابت التربية على العقائد والخلال التي سبق ذكرها والتي هي عماد التقدم .
هذه باختصار فكرة الأفغاني عن التقدم وعن السقوط والتي لخصها الأفغاني في خاتمة رسالته في الرد على الدهريين حيث رد شروط نيل الأمم للسعادة إلى أربعة : أولها : عقيدي يقوم على تصفية العقول من لوث الأوهام ، وثانيها أخلاقي يوجه النفوس إلى بلوغ مراتب الكمال ، وثالثها عقلاني يقضي بالتحرر من التقليد ، ورابعها أخلاقي تربوي يخلص النفس من سلطان الشهوة ([8]) .
 ونلاحظ هنا عدة أمور :
أولاً : أن تفكير الأفغاني في الحقيقة ليس نتيجة تأمل منظم منطقي في واقع الأحداث ، وإنما هي بنات ظروفها تماماً كمواقف صاحبها ، فقد كان رجل مواقف ينفعل بكل حدث ويوجه تفكيره بحسب جريانه وكان لطبعه الثوري الحاد ألأثر في توجيهه ([9]) .
ثانياً : أن مشكلة المجتمع الإسلامي هي مشكلة مجتمع ظل خارج التاريخ دهرأ طويلاً يشكو المرض ، فيأتي رجل سياسي كالأفغاني يرى أن المشكلة سياسية تحل بوسائل سياسية ، ويأتي رجل دين مثل محمد عبده يرى أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والتربية ، ورأى آخرون غير ذلك والكل يعالج الأعراض لا المرض ، وهكذا دخل العالم الإسلامي إلى صيدلية الحضارة الغربية فهو يتعاطى هنا حبة ضد الجهل ويأخذ هنا قرصاً ضد الاستعمار وغيرها أما المرض الحقيقي فلا أحد يعرفه ، وإنه لمن السخف أن تنشئ حضارة بشراء منتجات حضارة أخرى ([10]) .


(1) خاطرات ( الأصالة والتقييد ) ص 192-195 بتصرف شديد .
(2) خاطرات ( الاستعمار ) ص 448 .
(3) المصدر السابق ص 448 .
(4) خاطرات ( وحدة الأديان وانقسام تجارها ) ص 295 .
(5) الرد على الدهريين ( الأعمال الكاملة ) ص 141 – 148 .
(6) خاطرات ( رسالة في القضاء والقدر ) ص 182-183 .
(7) الرد على الدهريين ( الأعمال الكاملة ) ص 160 .
(8) رسالة في الرد على الدهريين ( الأعمال الكاملة ) ص 173-179 .
(9) أسس التقدم ص 170 .
(10) أسس التقدم ص 406-407 .

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
تعريب وتطوير محمد محمود
شخبطة © 2011 | عودة الى الاعلى
محمد محمود